الأربعاء، 26 مارس 2014

كلمة في الانتصار لرسول الله ضد قُوَى الكفر والسفالة وقلة الأدب


"الرسول النكَّاح والقُمّص المنكوح" 
كلمة في الانتصار لرسول الله ضد قُوَى الكفر والسفالة وقلة الأدب
اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد
د. إبراهيم عوض

استعلن القوم فى المهجر بقلة الأدب والسفالة التى كانوا يخفونها تحت رداء الرقة والسماحة والمحبة الكاذبة، وأخذوا يشتمون رسول الله أبشع الشتائم: فهو مرة الرسول المخنَّث، ومرة الرسول النّكَّاح، ومرة الشيطان الكافر المنافق القاتل الزانى اللص. كما سَمَّوْا كتاب الله: "قرآن سافو"، و"قرآن رابسو"، و"الوحى الشيطانى"، ووصفوا المسلمين بأنهم كفرة منافقون زناة أولاد زانيات، وألفوا قرآنا كاذبا مزيفا وأطلقوا عليه "الفرقان الحق" تصورا من الأوغاد الأوباش أن بمقدورهم إزاحة كتاب الله وإحلال هذا العهر محله. ولم يكتفوا بهذا بل يرسلون إلينا بخطابات مشباكية ويصرخون فى الفضائيات يهددوننا بأمريكا التى ستأتى وتمحقنا وتعيد دين الله إلى البلاد التى جاء منها، وكأن دينهم صناعة مصرية ولم يأت هو أيضا من خلف الحدود، فضلا عن أن الإسلام لم يتعرض لما تعرض له دينهم من عبث وتحريف... إلى آخر ما يفعلون مما يدل على أنهم قد فقدوا عقولهم وليس فى أيديهم شىء يمكن أن يجادلوا به. وقد كنا نسمع هذا كله ونقرؤه وأكثر منه ثم نسكت ونقول: إذا كان هؤلاء الشراميط مجانين فلنكن نحن عقلاء. ويبدو أن ذلك الموقف المتسامى قد غرَّهم فظنوا أن الساحة خالية لهم يقولون فى ربنا ونبينا وكتابنا وفينا نحن أنفسنا وفى أمهاتنا وآبائنا ما يشاؤون دون رقيب أو حسيب. لكن الكيل قد فاض، فكان لا بد من الرد على هذه السفالات والبذاءات. وفى القرآن الكريم: "فمن اعتدى عليكم فاعْتَدُوا عليه بمثل ما اعْتَدَى عليكم"، "وإنْ عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به"، وفى الأمثال والحِكَم التى يرددها العقلاء من جيل إلى جيل: "الشر بالشر، والبادئ أظلم". وفى هذه الهوجة كتب القُمّص المنكوح فى موقعه المعروف على المشباك كلمة بعنوان "بين السيد المسيح والنبى محمد فى القرآن والإنجيل" يقارن فيها بين عيسى بن مريم والرسول الكريم بغية الوصول إلى أن ثمة فرقا شاسعا لا يمكن اجتيازه بين المسيح (الله أو ابن الله) وبين محمد، الذى ينكر القُمّص المنكوح نبوّته كفرا منه وحمقا سيورده بمشيئة الله موارد الجحيم إلا إذا كتب الله له توبةً قبل أن يغرغر. وتقوم الكلمة المأبونة كصاحبها على أساس أن القرآن الكريم يقول فى المسيح كذا وكذا مما لم يذكره لمحمد، وهو ما يدل فى نظر المأبون على أن محمدا رجل كذاب، وأن عيسى بن مريم إله أو ابن للإله، وذلك على النحو التالى:

"المسيح فى القرآن هو:
 كلمة الله                         وروح منه                       3ـ آية من الله
4ـ بلا مساس من البشر                        وأنه تكلم فى المهد                        وخلق طيراً
 شفى المرضى                        أقام موتى                       9ـ تنبأ بالغيب
10ـ مؤيد بالروح القدس                       11ـ مباركاً                       12ـخلت من قبله الرسل
13ـ ممسوح من الأوزار والخطايا                       14ـ صعد إلى السموات                       15ـ سيأتى حكماً مقسطاً
16 ـ وأنه وجيهاً فى الدنيا والآخرة". ودائما ما يختم الأحمق كلامه فى كل موضوع من هذه المواضيع بالسؤال التالى: وماذا عن محمد؟ وهو سؤال لا يحتاج إلى شرح ما يحمل فى طياته من مغزًى كما هو بَيِّنٌ واضح. وسوف نتناول ما قاله هذا المنكوح بمنطق باتر لا يفهمه لا هو ولا أمثاله ممن تعودوا على الإيمان بما لا يعقلون، بل يرددون ما يُلْقَى إليهم دون وعى ولا إدراك ولا ذوق.

وسنبدأ بما قاله عن وصف القرآن للسيد المسيح بأنه "كلمة الله". وهذا كلامه بنصّه: "المسيح هو كلمة الله : (1) (النساء 4: 171) "إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه". (2) (سورة آل عمران 3: 45) "إذ قالت الملائكة: يا مريم، إن الله يبشرك بكلمة منه، إسمه المسيح عيسى ابن مريم، وجيهاً فى الدنيا والآخرة ومن المقربين".(3) (يوحنا 1: 1،2،14) "فى البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان فى البدء عند الله. كان فى البدء عند الله. والكلمة صار جسداً وحل بيننا، ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب". (4) معنى الكلمة فى اللغة اليونانية التى كُتب بها الكتاب المقدس هى : لوغوس: أى عقل الله الناطق". والواقع أننى لا أدرى كيف يمكن الوصول إلى النتيجة التى يريدها هذا الأفاك من النصوص القرآنية التى أوردها. إن القرآن يؤكد أن المسيح عليه السلام لم يكن سوى رسول، أى أنه لم يكن إلها أو ابن إله، إذ ليس للقَصْر فى هذا الموضع إلا ذلك المعنى. بل إن مجرد كونه رسولا ليس له من معنى إلا أنه كان بشرا، فقد جاء فى القرآن عن الرسل قوله سبحانه وتعالى: "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نُوحِى إليهم" (يوسف/ 109، والنحل/ 43)، "ولقد أرسلنا رُسُلاً من قَبْلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية" (الرعد/ 38)، "يا بنى آدم، إمّا يأتينّكم رسل منكم (أى بشر مثلكم)..." (الأعراف/ 35). أى أن الرسل لم يُبْعَثوا إلا من البشر، سواء قلنا إن "الرجال" هنا معناها "البشر" على وجه العموم (جمع "رَجُل" و"رَجُلَة") أو "الذكور" منهم خاصة. ذلك أن الوثنيين كانوا يستنكرون أن يكون الرسول من البشر، قائلين: "أَبَعَث اللهُ بشرًا رسولا؟" (الإسراء/ 94)، فرَدَّ القرآنُ عليهم: "قل: لو كان فى الأرض ملائكة يمشون مطمئنّين لنزّلنا عليهم من السماء مَلَكًا رسولا" (الإسراء/ 95). وبالمثل يقع النص التالى قريبا من هذا المعنى: "وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ* وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ " (الأنعام/ 8- 9). فمعنى أن المسيح عليه السلام لم يكن سوى رسول أنه كان بشرا من البشر. وقد قال القرآن هذا ردًّا على كفر النصارى الذين ألّهوه عليه السلام كما هو معروف، لكن زيكو مزازيكو يظن بخيابته أنه يستطيع خداع القراء، على حين أنه لا يخدع إلا نفسه ومن على شاكلته ممن يعيشون على الكذب والتدليس. ويا ليته تدليس ذكى، إذن لكنا أُعْجِبْنا ببهلوانيته وتنطيطه، لكنه تدليس غبى مثل صاحبه لا يبعث على الإعجاب، بل على البصق على وجه المدلِّس الكذاب!

أما وصف القرآن له عليه السلام بأنه كلمة من الله فمعناه أنه قد خُلِق بالأمر المباشر لأنه لم تكتمل له الأسباب الطبيعية التى تحتاجها ولادة طفل جديد: وهى الاتصال الجنسى بين رجل وامرأة، وتأهّل كليهما للإنجاب، ووقوع الاتصال فى الأوقات التى يمكن أن يتم فيها الحمل، وغير ذلك. والمقصود أن الله قد قال له: "كن" فكان، وهو نفسه الحال فى خَلْق آدم: "إنّ مَثَلُ عيسى عند الله كمَثَل آدم. خلقه من تراب، ثم قال له: كن، فيكون" (آل عمران/ 59). إن الكذاب البهلوان يحاول الاستشهاد بالقرآن، فكان من الواجب عليه الأمانة فى النقل عن القرآن وعدم اقتطاع أى نص من نصوصه من سياقه العام ولا من سياقه فى الآيات التى تحيط به...إلخ.
ثم إن المدلّس البهلوان يسوق لنا كلام يوحنا ليدلل به على ألوهية المسيح عليه السلام، وهو: "فى البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان فى البدء عند الله. والكلمة صار جسدا وحل بيننا، ورأينا مجده مجدا كما لوحيد من الآب" (يوحنا 1: 1، 2، 14). وهذا كلام مضحك لا يوصّل لشىء مما يريد أن يدلّس به علينا، إذ إن يوحنا يتناقض من كلمة للكلمة التى تليها مباشرة، وليس عنده البراعة فى حَبْك البكش الذى يمارسه للأسف. كيف؟ لقد قال فى البداية إن الكلمة كان (أو كانت) عند الله. أى أنها لم تكن هى الله، بل عند الله. ذلك أن الشىء لا يكون عند نفسه، بل عند غيره. لكن يوحنا سرعان ما ينسى فيقول إن الكلمة التى كانت عند الله هى الله ذاته. الله أكبر! ثم لا يكتفى جنابه بهذا أيضا بل يمضى فى التخبط قائلا إن الكلمة كانت كالابن الوحيد للأب (أو "الآب")، وكل ذلك فى سطرين اثنين لا غير! ومع ذلك كله فإنه لا يكتفى بهذا ويكفأ على الخبر الفاضح ماجورا، بل يأبى إلا أن تكون الفضيحة من النوع ذى الجلاجل، أى الأجراس والشخاليل، حتى يمكن أى راقصة شرقية أن تتشخلع عليها وتأخذ راحتها على الآخر وتكون الليلة ليلة فُلَّلِيّة! ولهذا نراه يقول إن معنى "الكلمة" فى اللغة اليونانية التى كُتب بها الكتاب المقدس هى "لوغوس"، أى عقل الله الناطق. الله أكبر مرة أخرى وثالثة ورابعة وعاشرة ومائة وألفا ومليونا... إلى ما شاء الله!
معنى هذا أن البكّاش قد جعل هو ويوحناه من "الكلمة" شيئا عند الله، ثم عادا فجعلاها هى الله ذاته، ثم عادا فجعلاها ابنه الوحيد، ثم عادا فجعلاها عقل الله (عقل الله الناطق من فضلك، وليس عقله الأخرس الأبكم. ترى هل هناك عقل ناطق وعقل ساكت؟ ولمن؟ لله سبحانه!). فتعالَوْا "أيها المتعبون والثقيلى الأحمال" نحاول معا أن نحل هذه الفزورة (أو "الحزورة" كما يقول بعض الأطفال)! أما إنك يا زيكو "لَوَضِيعٌ ومتواضعُ العقل" كما جاء فى كتابك المقدس، مع استبدال "الوضيع" بــ"الوديع" و"العقل" بــ"القلب" لتناسب الموقف المضحك الذى نحن فيه! طيب يا وضيع يا متواضع العقل، ألم تفكر فيما سيحدث لله حين يتركه عقله ويأتى فيتجسد فى دنيانا؟ ترى كيف سيدبر سبحانه العالم بدون عقل؟ ألا خيبة الله على عقلك التَرَلَّلِى أنت وقائل هذا السخف! يا أيها الوضيع المتواضع العقل، إننا الآن فى القرن الحادى والعشرين، وأنت وأمثالك ما زلتم ترددون هذا الكلام المضحك الذى تحاول أن تضحك علينا به ويقول الغربيون إنهم قد تجاوزوه، على حين أنهم فى أوروبا و"أمريكا يا ويكا" يشجعونك أنت وأشباهك من المعوقين عقليا ونفسيا على ترديد هذا الكلام! لا وإيه؟ إنهم يشجعونكم على محاولة تنصير أولادنا وبناتنا وتحويلهم إلى مجموعة من المعاتيه المخابيل عَبَدة الخِرْفان ذات الجِزّة الصوفية المعتبرة التى يمكن بعد ذبح الخرفان وأكلها أن نتخذها "فروة" نفرشها تحت أقدامنا فى ليالى الشتاء الباردة فنكون قد استفدنا من الخروف لحما وصوفا ولم نرم منه إلا المصارين والأظلاف والقرون! لا بل إننا لنستطيع أن نصنع من المصارين (بعد غسلها جيدا) سجقا لذيذا، ومن الأظلاف والقرون غِرَاءً نلصق به شفتيك النجستين فلا تزعجنا بعدها بكلامك هذا الأبله!
ليس ذلك فقط، بل إن الوغد ليتكلف خفة الظل تكلفًا رغم ثقل روحه، فيسوق قوله تعالى: "قل: سبحان ربى! هل كنت إلا بشرًا رسولاً؟" (الإسراء/ 93)، "إنما أنا بشرٌ مثلكم" (الكهف/ 110، وفُصِّلَتْ/ 6) دليلا على أن القرآن، فى الوقت الذى يحكم فيه لعيسى أنه ابن الله أو الله نفسه، يقول عن محمد إنه ليس سوى رسول. وهذا كله كذب وخداع لا أدرى كيف يجرؤ أى إنسان يحترم نفسه ويقول إنه على الحق أن يُقْدِم عليه! أيمكن أن يُقْبِل مثل ذلك الشخص على الكذب بهذا الأسلوب المفضوح السخيف؟ لقد كان على الرجل، إذا تنازلنا وقلنا عن أمثاله إنهم رجال، أن يُطْلِع قارئه على الآيات القرآنية الكريمة التى تنفى الألوهية تماما عن عيسى عليه السلام وتؤكد أنه مجرد إنسان كسائر الناس، يأكل ويشرب ويدخل الحمام ليعمل كما يعمل الناس، وأنتم تعرفون بطبيعة الحال ماذا يعمل الناس فى الحمام! أليس كذلك؟ أم أقول لكم ماذا كان يفعل هناك؟ لا، لا داعى للإحراج، ولا داعى لأن تدفعونى إلى التصريح بأنه كان يتبول ويتبرز، لأن التصريح هنا لا يصح! ثم أى إله ذلك الذى كان يعملها على روحه وهو طفل صغير فتمسحها له أمه بخرقة؟ يا له من إله! أم تراكم تقولون إنه كان يتبول عصير تفاح، ويتبرز كفتةً وكبابًا؟ لكنه لن يكون حينئذ أيضا إلا بشرا لأن الآلهة لا تتبول ولا تتبرز على أى نحو! ثم يجد المتاعيس فى أنفسهم جرأة ليشتموا رسولنا ويقولوا عنه: "الرسول النكّاح". طيب، وما له؟ فلم إذن خُلِق الرجال إذا لم ينكحوا النساء؟ أم تراهم يُنْكَحون كالنساء مثلما يُنْكَح أشباه هذا الجلف من القساوسة والأساقفة ممن كانوا طول عمرهم يُنْكَحون، ثم لم يعودوا الآن فى بلاد الغرب يهتمون بالتوارى عن الأنظار والاستخفاء بهذا الرجس عن عيون الناس فأصبحوا يعلنون أنهم يُنْكَحون، مع أننا نعرف أنهم كانوا كذلك من قديم الأزل، لأن الإنسان إما ناكح أو منكوح يا زيكو يا أبا المناكيح!
قال تعالى: "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ* لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ* قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ" (المائدة/ 72- 77)، "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ علاّمُ الْغُيُوبِ* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" (المائدة/ 116- 117)، "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ* اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" (التوبة/ 30- 31). كما مر قبل قليل أن عيسى مثل آدم: كلاهما مخلوق بكلمة "كن" لا من اتصال رجل بامرأة!
ويستمر زيكو مزازيكو فى تخاريفه التى يخال أنها يمكن أن تجوز على العقول، غير دارٍ أن عقول الآخرين ليست كلها كعقله الضحل المتهافت، فتراه يستشهد على زعمه أن المسيح يختلف عن الرسول الكريم (فى أنه روح، وبالتالى فإنه إله لا إنسان) بقوله جل جلاله: "إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" (النساء/ 171). ثم يعقب قائلا إن "البعض يعترض بأن معنى "روح" الله أى "رحمة" من الله. والواقع أنا لا أدرى لماذا يموّه المسلمون الحقائق. ففى "المعجم الوسيط" (الجزء الأول ص 380) تجد هناك كلمتين : 1ـ (الرَّوْحُ): [بفتح الراء وسكون الواو] معناها: الراحة أو الرحمة. أو نسيم الريح. 2ـ (الرُّوحُ): [بضم الراء ومد الواو] معناها: النفس. و(رُوحُ القدُس): [عند النصارى] الأقنوم الثالث. ويقول البعض أن المقصود بروح القدس فى القرآن هو جبريل عليه السلام (سيأتى الحديث عن ذلك بعد قليل). وقد يعترض البعض أيضاً بأن مَثَل المسيح أنه روح من الله كمَثَل آدم الذى قيل عنه: "ونفختُ فيه من روحى" [سورة الحجر/ 29، وسورة ص/ 72]. فدعنا نناقش هذا الرأى. بمقارنة ما قيل عن المسيح وعن آدم نجد اختلافاً كبيراً:
 
آدمالمسيح
ونفختُ فيه من روحى
إنما المسيح ... روح منه
هذا التعبير الذى قيل عن آدم ليس كالتعبير الذى قيل عن المسيح، بل كالتعبير الذى قيل عن مريم: [الأنبياء/ 91] "والتى أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا" فهل نحن نؤله العذراء؟
ومعنى روح منه : يتطابق مع الآيات القرآنية التى تتحدث عن تأييد السيد المسيح بالروح القدس، وهو فى المهد، كما توضح الآيات التالية …

ومن الواضح الجلى أن الرجل قد غُشِّىَ على عقله تماما، إذ مهما يكن معنى الروح فى كلام القرآن عن عيسى عليه السلام فلا ريب أن "الروح" هنا هى نفسها الروح فى حال سائر البشر، أما ما يقوله هو فكلام فارغ لا سبيل إلى صحته أبدا. كيف؟ يقول زكزك إن القرآن يقول عن آدم: "ونفحتُ فيه من روحى"، مثلما يقول عن مريم: "ونفخنا فيها من روحنا". أى أن النفخ، حسبما يقول، لم يتم فى آدم وعيسى، بل فى آدم ومريم، فلا وجه للشَّبَه إذن بين آدم وعيسى. أتعرف أيها القارئ ما الذى يترتب على هذا؟ الذى يترتب عليه هو أن يكون الخارج من آدم ومريم متشابهين، أى أن البشر جميعا (وهم الذين خرجوا من صلب آدم) يشبهون عيسى (الذى خرج من رحم مريم). وعلى هذا فإما أن نقول إن الطرفين جميعا (البشر من ناحية، وعيسى من الناحية الأخرى) آلهة إذا قلنا إن "الروح" هنا تعنى "الألوهية"، أو أن نقول إنهما جميعا بشر على أساس أن "الروح" تعنى "الحياة والوعى والإرادة وما إلى ذلك". واختر يا زيكو ما تحب، ولكن عليك أن تعرف أن الطريق أمامك إلى التمييز بين عيسى عليه السلام وأبناء آدم مسدود، إذ هما شىء واحد. ويبقى آدم نفسه: فأما الإسلام فيقول إنه بشر مخلوق من طين، وأما الكتاب المقدس فيقول فى نسبه إنه ابن الله، فى الوقت الذى ينسب عيسى إلى يوسف النجار. يا ألطاف السماوات! هكذا؟ نعم " هكذا ببساطة وبكل وضوح!": "ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة وهو على ما كان يظن ابن يوسف بن هالي 24 بن متثات بن لاوي بن ملكي بن ينّا بن يوسف 25 بن متاثيا بن عاموص بن ناحوم بن حسلي بن نجّاي 26 بن مآث بن متاثيا بن شمعي بن يوسف بن يهوذا 27 بن يوحنا بن ريسا بن زربابل بن شألتيئيل بن نيري 28 بن ملكي بن أدي بن قصم بن ألمودام بن عير 29 بن يوسي بن أليعازر بن يوريم بن متثات بن لاوي 30 بن شمعون بن يهوذا بن يوسف بن يونان بن ألياقيم 31 بن مليا بن مينان بن متاثا بن ناثان بن داود 32 بن يسّى بن عوبيد بن بوعز بن سلمون بن نحشون 33 بن عميناداب بن ارام بن حصرون بن فارص بن يهوذا 34 بن يعقوب بن اسحق بن ابراهيم بن تارح بن ناحور 35 بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن شالح 36 بن قينان بن ارفكشاد بن سام بن نوح بن لامك 37 بن متوشالح بن اخنوخ بن يارد بن مهللئيل بن قينان 38 بن انوش بن شيت بن آدم ابن الله" (لوقا/ 3). فالمسيح، كما هو واضح من النص، لم يُنْسَب لله، بل الذى نُسِبَ لله هو آدم! يعنى؟ يعنى أن الكتاب المقدس نفسه يضع آدم فى مكانة أعلى بما لا يقاس بالنسبة للمسيح، عليهما جميعا السلام. وغنى عن القول إننا لا نولى هذا الكلام المضحك شيئا من الاهتمام على الإطلاق!
وفى النص التالى، وهو عبارة عن الإصحاح الأول كله من إنجيل متى، نقرأ: "كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن ابراهيم . 2 ابراهيم ولد اسحق . واسحق ولد يعقوب . ويعقوب ولد يهوذا واخوته . 3 ويهوذا ولد فارص وزارح من ثامار . وفارص ولد حصرون . وحصرون ولد
ارام . 4 وارام ولد عميناداب . وعميناداب ولد نحشون . ونحشون ولد سلمون . 5 وسلمون ولد بوعز من راحاب . وبوعز ولد عوبيد من راعوث . وعوبيد ولد يسى . 6 ويسى ولد داود الملك . وداود الملك ولد سليمان من التي لأوريا. 7 وسليمان ولد رحبعام. ورحبعام ولد ابيا . وابيا ولد آسا . 8 وآسا ولد يهوشافاط . ويهوشافاط ولد يورام . ويورام ولد عزيا. 9 وعزيا ولد يوثام . ويوثام ولد آحاز . وآحاز ولد حزقيا . 10 وحزقيا ولد منسّى . ومنسّى ولد آمون . وآمون ولد يوشيا . 11 ويوشيا ولد يكنيا واخوته عند سبي بابل . 12 وبعد سبي بابل يكنيا ولد شألتيئيل . وشألتيئيل ولد زربابل . 13 وزربابل ولد ابيهود . وابيهود ولد الياقيم . والياقيم ولد عازور . 14 وعازور ولد صادوق . وصادوق ولد اخيم. واخيم ولد اليود . 15 واليود ولد أليعازر . وأليعازر ولد متان . ومتان ولد يعقوب . 16 ويعقوب ولد يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع الذي يدعى المسيح . 17 فجميع الاجيال من ابراهيم الى داود اربعة عشر جيلا . ومن داود الى سبي بابل اربعة عشر جيلا. ومن سبي بابل الى المسيح اربعة عشر جيلا 18 اما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا . لما كانت مريم امه مخطوبة ليوسف قبل ان يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس . 19 فيوسف رجلها اذ كان بارا ولم يشأ ان يشهرها اراد تخليتها سرّا . 20 ولكن فيما هو متفكر في هذه الامور اذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا يا يوسف ابن داود لا تخف ان تأخذ مريم امرأتك . لان الذي حبل به فيها هو من الروح القدس . 21 فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع لانه يخلّص شعبه من خطاياهم . 22 وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل . 23 هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا 24 فلما استيقظ يوسف من النوم فعل كما امره ملاك الرب واخذ امرأته . 25 ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر . ودعا اسمه يسوع". ولاحظ كيف أن سلسلة نسب المسيح تمر قبله مباشرة بيوسف النجار. لماذا؟ أترك الجواب لعبقرية زكازيكو تفكر فيه على مهل! إذن فآدم (وليس المسيح) هو ابن الله، أما المسيح فابن ... ابن من؟ حزّر فزّر! وبالمناسبة فلم يحدث قط أن سُمِّىَ المسيح عليه السلام: "عمّانوئيل" من أى إنسان، رغم أن هذا الاسم يُطْلَق على كثير من الناس الذين ليسوا بأبناء لله! كما أن النص يقول إنها ستسميه: "يسوع" لكى تتحقق النبوءة القديمة التى تقول إنه سيسمَّى: "عمانوئيل"‍‍! وهو ما يذكرنا بالنكتة التى أُطْلِقَتْ على السادات أيام توليه الرئاسة حين كان يؤكد أنه حريص على اتباع سياسة عبد الناصر، إذ كانوا يقولون إنه يتصرف كالسائق الذى يشغّل غمّاز السيارة الشِّمال ثم ينعطف إلى اليمين! أرأيتم الضلال والغباء والعمى الحيسى؟ فكأن الله يأبى إلا أن يخزى القوم فى كل ما يقولون كذبا وبهتانا عن عيسى وبنوته لله سبحانه، ومن فمهم وبلسانهم نفسه يُدَانُون!
وكان الناس جميعا يقولون إن أبا عيسى هو يوسف النجار. لا أقول ذلك من عندى، بل تذكره أناجيلهم التى نقول نحن إنها محرفة فيكذّبوننا عنادا وسفاهة! لقد كتب يوحنا فى إنجيله (1 / 5) أن الناس كانت تسميه: "ابن يوسف"، وهو نفس ما قاله متى (1 / 55) ولوقا (3 / 23، و 4/ 22)، وكان عيسى عليه السلام يسمع ذلك منهم فلا ينكره عليهم. بل إن لوقا نفسه قال عن مريم ويوسف بعظمة لسانه مرارًا إنهما "أبواه" أو "أبوه وأمه" ( 2 / 27، 33، 41، 42 ). كذلك قالت مريم لابنها عن يوسف هذا إنه أبوه (لوقا /2 /48). وقد رأينا كيف أن الفقرات الست عشرة الأولى من أول فصل من أول إنجيل من الأناجيل المعتبرة عندهم، وهو إنجيل متى، تسرد سلسلة نسب المسيح بادئة بآدم إلى أن تصل إلى يوسف النجار ("رجل مريم" كما سماه مؤلف هذا الإنجيل) ثم تتوقف عنده. فما معنى هذا للمرة الثانية أو الثالثة أو الرابعة...؟ لقد توقعتُ، عندما قرأت الإنجيل لأول مرة فى حياتى، أن تنتهى السلسلة بمريم على أساس أن عيسى ليس لـه أب من البشر، إلا أن الإنجيل خيَّب ظنى تخييبا شديدا، فعرفتُ أنّ من طمس الله على بصيرته لا يفلح أبدا.

أما إذا أصر الرجل (الرجل مجازا فقط) على القول بأن عيسى هو ابن الله، فليكن صادقا وشريفا مرة واحدة فيذكر أن كلمة "ابن الله" أو "أبناء الله" قد أُطْلِقت فى كتابه المقدس على بَشَرٍ كثيرين منذ أول الخليقة حين سُمِّىَ آدم كما رأينا: "ابن الله". وهذه شواهد على ما نقول، وهى أكبر برهان على أن كل ما يزعمه القوم هو كلام باطل: باطل بأدلة من كتابهم المقدس نفسه لا من العقل والمنطق فحسب، فضلا عن القرآن الكريم: "وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الارض وولد لهم بنات 2 ان ابناء الله رأوا بنات الناس انهنّ حسنات. فاتّخذوا لانفسهم نساء من كل ما اختاروا... وبعد ذلك ايضا اذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم اولادا . هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم 4" (تكوين/ 6)، "‎قدموا للرب يا ابناء الله قدموا للرب مجدا وعزّا" (مزمور/ 1/ 29)، ‎” من في السماء يعادل الرب . من يشبه الرب بين ابناء الله" (مزمور/ 6/ 89)، "اسرائيل ابني البِكْر" (خروج/ 1/ 22، و4/ 22- 23). كما يصف الله داود قائلا: "أنت ابنى. أنا اليوم ولدتك". (مزمور/ 2/ 7)، ويبتهل أشعيا له بقوله: "أنت أبونا" (أشعيا/ 63/ 15- 16)، كما يقول المسيح ذاته: ‎”طوبى لصانعي السلام. لانهم أبناء الله يُدْعَوْن" (متى/ 9/ 5)، "احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكى ينظروكم، وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذى فى السماوات" (متى/ 6/ 1)، ويقول النصارى فى صلواتهم: "أبانا الذى فى السماوات..."، فضلا عن أن المسيح قد أخذه الشيطان ليجربه فوق الجبل ويدفعه إلى السجود له، وليس من المعقول أن يجرب الشيطان الله ليرى أيمكن أن يسجد له الله أم لا، مثلما ليس من المعقول أن يكون رد الله على الشيطان هنا هو: "اذهب يا شيطان، لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد"، وهو ما يعنى بكل جلاء أن عيسى كان ينظر لله على أنه "ربه" لا على أنه "هو نفسه" ولا على أنه "أبوه"، وعلى أن من الواجب عليه أن يسجد له. كما أنه عليه السلام قد سمَّى نفسه أيضا: "ابن الإنسان" (متى/ 11/ 19)، وهى ذات الكلمة التى استخدمها للإنسان كجنس (متى/ 12/ 8). وفوق ذلك فإن له، عليه السلام، كلمة ذات مغزى خطير، إذ يُفْهَم منها أن "البنوّة" التى يعبِّر بها أحيانا عن علاقته بالله ليست شيئا آخر سوى الطاعة المخلصة له سبحانه والانصياع لإرادته انصياعا تاما. ومن هنا نراه يقول عن كل من يفعلون مثلما يفعل إنهم إخوته وأمه، كما هو الحال عندما أخبروه ذات مرة، وكان بداخل أحد البيوت، بأن أمه وإخوته بالخارج يريدونه، فأجابهم قائلا: "من هى أمى؟ ومن هم إخوتى؟ ثم مد يده نحو تلاميذه وقال: ها أمى وإخوتى، لأن من يصنع مشيئة أبى الذى فى السماوات هو أخى وأختى وأمى" (متى/ 12/ 47- 49). وهى إجابة تدل على أنه أن أمه لم تكن تستحق بنوته لها ولا أن إِخْوَته يستحقون أُخُوّته لهم، وذلك لما يراه من تفريطها وتفريطهم فى الإيمان بدعوته. وهو ملحظ فى منتهى الخطورة، إذ ها هى ذى أم الإله يتبرأ منها ابنها ولا يراها جديرة بأن يجمع بينه وبينها نسب واحد. يا لها من ألوهية رخيصة! ويا له من نسب لا يشرِّف!
بعد ذلك كله فإن الجواب على السؤال التالى الذى طرحه الملتاث: "هل قيل فى القرآن كله إن محمداً هو روح من الله؟" هو: "لم يُقَلْ ذلك فى القرآن عن محمد وحده، بل قيل عن آدم أبى البشر، ومن ثم عن البشر كلهم بما فيهم محمد عليه السلام كما رأينا. والسبب هو أن آدم لم يُخْلَق بالطريق الذى أصبح هو الطريق المعتاد بعد خلق آدم وحواء، أى من خلال رجل وامرأة، فلذلك نفخ الله فيه مباشرة من روحه، وهو ما تكرر فى حالة السيد المسيح عليه السلام، وإن كان على نحو أضيق، إذ كانت له أم، بخلاف آدم، الذى لم يكن له أب ولا أم.
بل إننا لنذهب فى تحدى زيكو مدًى أبعدَ فنقول له إنهم إذا كانوا يتخذون من خلق المسيح دون أب دليلا على أنه ابن الله، فليمضوا مع منطقهم إلى آخر المدى ويجعلوا آدم هو الله نفسه (أستغفر الله!) لا ابنه فقط لأنه لم يكن له بابا ولا ماما، فهو إذن يتفوق على المسيح من هذه الناحية كما هو واضح إن كان فى هذا تفوق على الإطلاق، وهو ما لا نسلم به، لكننا نتبنى منطق الأبعد لقطع الطريق عليه وعلى بهلوانياته! ثم إن المسكين يستمر فى سياسة البكش فيقول إن قوله تعالى على لسان مريم تخاطب الروح حين تمثل لها بشرا كى ينفخ فيها: "أَنَّى يكون لى غلامٌ، ولم يَمْسَسْنى بَشَرٌ؟" معناها أنه عليه السلام "ليس من بشر". وهذا غير صحيح البتة، فقد جاء عليه السلام من بشر، وهى مريم، التى حملت به وحفظته فى رحمها وتغذى من دمها الذى يجرى فى عروقها تسعة أشهر، ثم وضعته وأرضعته من لبنها الذى فى صدرها، إلا أنه لم يكن له أب. وهذا كل ما هنالك! فإذا قلت: "النفخة"، كان جوابنا: لكن آدم تم النفخ فيه دون أن يكون هناك رَحِمٌ يحمله ولا صدرٌ يرضعه ولا أم تربّيه...، وهذا أَوْغَل فى الخروج عن السنن المعتادة فى الخلق!
بعد ذلك ينتقل زيكو إلى نقطة أخرى هى تأييد المسيح بروح القدس، الذى يجعله دليلا على أن عيسى يتفوق على محمد عليه السلام، وهذا نص كلامه: "التأييد بالروح القدس: (البقرة 2: 78، 253) "وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدُس". وللرد على ذلك نورد الأدلة والبراهين القاطعة التى تثبت بطلان هذا الإدعاء، من هذه الأدلة : 1ـ [سورة المائدة 5: 110] "إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس فى المهد وكهلا". 2ـ فإن هذه الآية غاية فى الأهمية فى دلالتها، إذ توضح أن تأييد المسيح بروح القدس هو منذ أن كان فى المهد صبيا، ولذلك كلم الناس فى هذه السن. فكيف يكون الروح القدس هو جبريل، وهو الذى نطق على لسان من فى المهد؟ 3ـ كيف يتفق هذا مع ما جاء فى [سورة يوسف 12: 87] "ولا تيأسوا من روح الله ، ولا ييأس من روح الله إلا القومُ الكافرين" فهل معنى روح الله هنا هو جبريل ؟ 4ـ وقد جاء تفسير روح الله فى [تفسير ابن كثير ج2 ص260] "لا تيأسوا أى لا تقطعوا رجاءكم وأملكم (من روح الله) أى من الله". 5ـ [وأيضاً تفسير ابن كثير ج1 ص87] "روح منه: أى اسم الله الأعظم". 6ـ وهناك آيات تشهد أن القدوس هو الله: [سورة الحشر 59: 23] "هو الله الذى لا إله إلا هو الملك القدوس" وأيضاً فى [سورة الجمعة 62: 1] "يسبح لله ما فى السموات وما فى الأرض الملك القدوس".

وكما يرى القارئ بنفسه، فالرجل يخبص خبصا كثيرا دون عقل أو منطق. إنه يتصرف كقاتل ضُبِط وهو يطعن ضحيته، وقد تضرجت يداه بالدماء، فهو يتخبط ويكذب ويحلف زورا بغية التفلت من قبضة الشرطة والعدالة. ولكن كيف يا زيكو، وقد ضُرِب حولك حصار محكم لا يمكنك الهروب منه. إن الأسداد لتأخذك من كل ناحية. إنه يزعم أن المسيح، بنص القرآن، كان مؤيَّدا بالروح القدس، أما محمد فلا. يريد أن يقول إن عيسى عليه السلام كان إلها أو ابن إله، أما محمد فمجرد بشر عادى. إذن فسيادة جنابه يستشهد بالقرآن، أولم يقرأ إذن فى القرآن قوله تعالى: "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ (يا رسول الله) فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ* إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُون* وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُون* قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (النحل/98- 102)، "وَإِنَّهُ ( أى القرآن) لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ" (الشعراء/ 192- 195)، "رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ" (غافر/ 15)، "لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ (أى عَادَى) اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (المجادلة/ 22)؟ أو لم يقرأ ما قاله لوقا (فى الفصل الأول من الإنجيل الذى ألفه) عن يحيى عليه السلام وأبيه زكريا وأن الأول كان ممتلئا، منذ أن كان جنينا فى بطن أمه، بالروح القدس (ممتلئا منه لا مؤيَّدا به فحسب)، والثانى امتلآ به هو ايضا، لكن ليس من صغره: "11فَظَهَرَ لَهُ (أى لزكريا عليه السلام) مَلاَكُ الرَّبِّ وَاقِفاً عَنْ يَمِينِ مَذْبَحِ الْبَخُورِ. 12فَلَمَّا رَآهُ زَكَرِيَّا اضْطَرَبَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ خَوْفٌ. 13فَقَالَ لَهُ الْمَلاَكُ: لاَ تَخَفْ يَا زَكَرِيَّا ،لأَنَّ طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ ، وَامْرَأَتُكَ أَلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ابْناً وَتُسَمِّيهِ يُوحَنَّا. 14وَيَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَابْتِهَاجٌ ،وَكَثِيرُونَ سَيَفْرَحُونَ بِوِلاَدَتِهِ،15لأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيماً أَمَامَ الرَّبِّ ،وَخَمْراً وَمُسْكِراً لاَ يَشْرَبُ ، وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُس"ِ، "67وَامْتَلأَ زَكَرِيَّا أَبُوهُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ"؟

فكما يرى القارئ العزيز، فإن روح القدس لا يؤيد الرسول الكريم فقط، بل ينزل على قلبه بالقرآن مثلما ينزل على كل الرسل والأنبياء، كما أنه يؤيد المؤمنين الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله، ويمتلئ به يحيى منذ أن كان جنينا لا يزال. وليكن معنى "الروح القدس" بعد هذا ما يكون، فالمهم أنه لا يختص بعيسى عليه السلام، وعلى هذا لا يمكن اتخاذه ذريعة للقول بتميز عيسى تميز الإله أو ابن الإله عن سائر البشر. أما خلط صاحبنا الأبله فى قوله تعالى: "وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّه ِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" (الذى يحرّفه على طريقتهم فى التلاعب بكتبهم فيكتبه هكذا: "ولا تيأسوا من روح الله، ولا ييأس من روح الله إلا القومُ الكافرين" متعمدا عدم ضبط "الروح" لغرض فى نفسه سيتضح للتو، ومبدلا عبارة "إنه لا ييأس" إلى "ولا ييأس"، ومخطئا بجلافة لا تليق إلا بواحد مثله فيكتب: "الكافرين" مكان "الكافرون")، أقول: أما خلطه بين "الرُّوح" (بضم الراء المشددة) كما فى الآيات الآنفة و"الرَّوْح" (بفتح الراء، وهو الراحة والرحمة) رغم أنه سبق أن فرق بينهما قبل قليل، فهو مصيبة المصائب. إنه، كما قلت، بهلوان، ومن ثم لا يثبت على حل ولا على حال، بل كلما رأى ما يظن أنه يمكن أن يخدم قضيته سارع باتخاذه دون أن يعى أنه قد سبق له اتخاذ عكس ذلك تماما.

وعلى أى حال فكيف يا ترى يكون روح الله وروح القدس هو الله؟ كيف يكون روح الله هو الله نفسه، أو يكون "روح القدس" هو "القدوس"؟ لكن إذا تذكرنا ما قلناه عن "كلمة الله" التى كانت "عند" الله، ثم أصبحت بعد قليل هى "الله" ذاته، لتعود مرة أخرى فتكون "وحيد الله"، ثم "عقل الله" عرفنا أن صلاح حال القوم ميؤوس منه، فهم هكذا كانوا، وهكذا سيظلون، ولا أمل فى تغيرهم، وإلا انهار بناؤهم كله لأنه بناء مؤسس على السراب! إن وصف الروح هنا بالقداسة لا ترتِّب للمسيح أية ألوهية أو بنوة لله، وإلا فقد وُصِف الوادى الذى رأى فيه موسى النار بـــ"الوادى المقدس"، مثلما وُصِفت أرض فلسطين بــ"الأرض المقدسة" و"المباركة". أفنجعل منهما أيضا إلهين أو ولدين من أولاد الإله؟ قال عز شأنه على لسان موسى عليه السلام: "يا قوم، ادخلوا الأرض المقدسة التى كتب الله لكم" (المائدة/ 21)، وقال جل جلاله مخاطبا موسى: "يا موسى، إنى أنا ربك، فاخلع نعليك. إنك بالوادى المقدَّس طُوًى" (طه/ 12). وعلى أية حال فلم يوصف عيسى عليه السلام فى القرآن بالقداسة، فهل نقول إنه أقل مرتبة وشأنا من وادى الطور وأرض فلسطين؟

كذلك يشير صُوَيْحِبنا إلى وصف القرآن لعيسى عليه السلام بأنه "آية"، متسائلا: هل فى القرآن أيضا أن محمدا آية كالمسيح؟ ولنقرأ ما قال نصًّا: "آية من الله : (1) [سورة المؤمنون 23: 50] "وجعلنا ابن مريم وأمه آية". (2) [سورة الأنبياء 21: 91] "فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين". (3) [سورة مريم 19: 21] "قال كذلك قال ربك هو علىّ هين، ولنجعله آية للناس". (4) [المعجم ج1 ص 35] "آية تعنى: العلامة والإمارة، العبرة، والمعجزة ". وماذا عن محمد؟ هل قيل فى القرآن كله أن محمداً كان آية من الله؟".

وهو بهذا يظن أنه قد وضعنا فى "خانة اليك"، مع أن الكلام الذى يقوله هنا لا يخرج عن الترهات والتفاهات التى يحسب أصحابها الجهلاء أنها هى العلم اللدنى. ولنبدأ على بركة الله فى قَشّ ذلك السخف بِمِقَشّة العلم والعقل فنقول: لقد وَصَفَتْ بعضُ الآيات السيدةَ مريم مع المسيح معا بــ"الآية"، أفنفهم من هذا، بناءً على منطقكم، أنها تساوى المسيح، أى أنها هى أيضا إله؟ فهذه واحدة، أما الثانية فكيف يا أخرق قد فاتك أن الآية (التى تجعل منها قصة وأقصوصة) قد تكون ناقة، أو جرادا وضفادع ودما وقملا، أو طينا وطيرا، أو مائدة طعام، أو جثة فارقتها الروح قد لفظها البحر، أو عصًا تحولت إلى ثعبان، أو عَجْزًا عن النطق... إلخ؟ فهل نجعل الناقة والعصا والقملة والضفدعة والطين والطير آلهة مثلما تريدون أن تجعلوا من وصف عيسى عليه السلام بــ"الآية" دليلا على أنه إله وأنه يتميز من ثم على محمد عليه السلام؟ وهذا إن حصرنا معنى الآية فى المعجزة، وإلا فكل شىء فى العالم من حولنا هو آية على وجود الله وقدرته وحكمته. وقد تكررت الكلمة كثيرا فى القرآن بهذا المعنى كما هو معروف، ومن ذلك قوله تعالى: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون"َ (البقرة/ 164)، "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ* يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ" (النحل/ 10- 13)، "وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ* وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ* وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ* وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ " (الروم/ 21- 25)... إلخ. إذن فأين الميزة التى تظن أيها الأبله أن عيسى عليه السلام يتفوق بها هنا على سيد الأنبياء والمرسلين؟ إننا نحب سيدنا عيسى ونجله ونحترمه ونضعه فى العيون منا والقلوب، بل نعد أنفسنا أتباعه الحقيقيين المخلصين، لكننا لا يمكننا القبول بألوهيته، وإلا كفرنا بالله سبحانه وبرسله الكرام الذين إنما أَتَوْا ليَدْعُوا أول شىء إلى وحدانية الله سبحانه وعدم الإشراك به.

والآن لتنظر إلى قوله تعالى فى النصوص التالية التى تشهد لما نقول، وذلك لو كان لك عينان للنظر أو أذنان للسمع، وأشك فى ذلك كثيرا، فعينا البعيد ليستا تنظران، كما أن أذنيه ليستا تسمعان. ذلك أنه قد طُمِس، والعياذ بالله، على سمعه وبصره. يقول صالح عليه السلام لقومه: "وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ" (هود/ 64)، ويقول سبحانه عن قوم فرعون: "فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ" (الأعراف/ 133)، "إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ* قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِين"َ (المائدة/ 112- 114)، ويقول تعالى مخاطبا زكريا عليه السلام: "قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ ألاّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاّ رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ" (آل عمران/ 41). .. إلخ. ثم إن "الآية" هى شىء يخلقه الله، أى أنها شىء مخلوق لا إله ولا ابن إله! هل رأيت الآن بنفسك، أيها القارئ الكريم، كيف ضاقت بل استحالت على الرجل السبل والمذاهب؟

وينتقل الجاهل إلى نقطة أخرى ليوقع كالعادة نفسه فى مأزق جديد ما كان أغناه عنه لولا حماقته وسخف عقله. إنه يذكر الآيات التى أجراها الله سبحانه على يد عيسى عليه وعلى نبينا الكريم أفضل الصلاة والسلام، وهى كلامه فى المهد، وإبراؤه الأكمه والأبرص وشفاؤه المرضى وإحياؤه الموتى وخلقه الطير من الطين بإرادةِ الله وقدرتِه لا بقدرة منه هو ولا بإرادته، فضلا عن تمكينه سبحانه إياه من التنبؤ بما يأكل الناس وما يدّخرونه فى بيوتهم، ثم يتساءل قائلا: وماذا عن محمد؟ يعنى أن الرسول الكريم لا يمكن أن يسامى عيسى عليه السلام هنا أيضا! وهذه مكايدة صغيرة مضحكة، فإن لمحمد عليه السلام معجزاته التى روتها كتب السيرة والأحاديث، وإن كانت من نوع مختلف، مثلما أن لكل من الأنبياء والرسل الآخرين معجزته الخاصة به. أى أن عيسى لا يتميز عن غيره من النبيين والمرسلين هنا أيضا. وهبه انفرد بوقوع المعجزات على يديه دون غيره من الأنبياء والرسل الكرام، أفينبغى أن نعد هذا تميزا منه عليهم؟ لا، لأنه لم يفعل ذلك ولم يستطعه من تلقاء نفسه، بل بقدرة الله سبحانه وإرادته. وهو، قبل هذا وبعد هذا، ليس إلا نبيا من الأنبياء ورسولا من المرسلين، أى عبدا من العباد، وهذا هو المهم لأنه هو جوهر الموضوع، أما وقوع المعجزات أو عدم وقوعها فلا يعنى شيئا ذا بال فى تلك القضية!

أما الإنباء بالغيب ففى القرآن نبوءة بانتصار الروم على الفرس فى بضع سنين، وقد تحققت. وفى القرآن نبوءة بانتصار الإسلام على غيره من الأديان، وقد تحققت. وفى القرآن نبوءة بأن الناس لن تستطيع قتل الرسول عليه السلام، وقد تحققت. وفى القرآن أن الحلى تُسْتَخْرَج من البحر العذب ومن البحر الملح كليهما، وهو ما لم يكن أحد يعرفه فى منطقة الشرق الأوسط على الأقل، ثم اتضح الآن أنه صحيح. وفى القرآن نبوءة بأن عبد العُزَّى عم الرسول سيَصْلَى نارا ذات لهب، وقد تحققت، إذ مات كافرا. وفى الحديث نبوءة بأنه سيأتى يوم على المسلمين تتداعى عليهم الأمم كما تتداعى الأَكَلَة على قصعتها، لا من قلة فى العدد، بل لأنهم غُثَاء كغثاء السَّيْل (يعنى: زبالة)، وقد تحققت فى الأعصر الأخيرة، وبخاصة هذه الأيام كما يرى كل من له عينان. وقد قال الرسول ذلك، والمسلمون فى عز قوتهم الإيمانية حينما كان الإسلام لا يزال أخضر غضًّا فى النفوس، وهو ما لم يتصوره الصحابة حينذاك لأنه كان غريبا تمام الغرابة على العقل والمنطق، إذ كان مَدّ الإسلام من العنفوان والجيشان بحيث لم يكن أحد يتصور خلاف ذلك!

وعلى كل حال فليست العبرة بالمعجزات الحسية، وإلا فمن الأنبياء من لم تأت معجزاتهم بالثمرة المرجوة منها لأن أقوامهم قد بَقُوا رغم ذلك متمسّكين بكفرهم وعصيانهم، ومن هؤلاء السيد المسيح، إذ كفر به اليهود إلا القليلين منهم، مما اضطر تلاميذه (حسبما ورد فى كتبهم المصنوعة التى ألّفتها أقلام البشر) إلى التحول بدعوته إلى الأمم الأخرى رغم أنه كان فى البداية يستنكر أن يتطلع أى من هذه الأمم إلى مشاركة بنى إسرائيل فى الدعوة التى أتى بها وكان يشبّههم بالكلاب، الذين ينبغى فى رأيه أن يُحْرَموا من الخبز ويُذَادوا عنه لأنه مخصص للأبناء وحدهم. بل لم تنفع المعجزات هنا أيضا، إذ إن هؤلاء قد انحرفوا بالتوحيد الذى أتاهم به عليه السلام وحوّلوه إلى تثليث مثلما فعلت الأمم الوثنية القديمة كالأغارقة والهنود والفرس والمصريين. وأخيرا وليس آخرا، فالمعجزات ليست من البراهين الحاسمة، فعلاوة على عدم استطاعتها تليين القلوب اليابسة والرؤوس الصلبة والرقاب الغليظة وإضاءة النفوس المعتمة كما قلنا، فإنها لا تستطيع أن تغالب الأيام، إذ ما إن يمر زمانها حتى تنصل صورتها فى النفوس ولا يعود لها أى تأثير، بل تصبح مظنة التزييف والتلفيق! وهى فى حالة نبينا، عليه وعلى إخوانه الأنبياء السلام، لم تكن ردا على تحدى الكفار له، بل كانت موجهة إلى المؤمنين (فى الدرجة الأولى على الأقل) تثبيتا لإيمانهم، لا إلى الكفار الذين ثبت أنهم لا يصيخون السمع إليها!
وبالمناسبة فإن النصارى لا يُقِرّون بكلام عيسى فى المهد لأنه غير مذكور فى الأناجيل التى يعترفون بها، وإن جاء فى بعض الأناجيل الأخرى غير المعتمدة عندهم شىء قريب من ذلك. أى أن القُمّص يحاججنا بما ورد فى القرآن رغم إعلانه الكفر به. وعلى كل حال فلست العبرة بإحياء شخص أو عدة أشخاص ثم ينتهى الأمر عند هذا الحد، بل العبرة كل العبرة فى إحياء الأمم من العدم الحضارى والخلقى والنفسى والسياسى والاجتماعى والذوقى، وهو ما كرَّم الله محمدا به، إذ أنهضت يداه المباركتان الميمونتان أمة العرب من حالة الهمجية والوحشية والتخلف المزرى الذى كان ضاربا أطنابه فوق بلادهم ومجتمعاتهم بل فوق حياتهم كلها، وجعل منهم حكاما يسوسون العالم ويقودونه ثقافيا وخلقيا وعقيديا لعدة قرون دون سند، اللهم إلا سند القرآن والإيمان! ولم يحيدوا حتى الآن عن عقيدة التوحيد رغم كل المصائب التى وقعت فوق رؤوسهم، سواء كانت من صنع أيديهم أو من صنع أعدائهم، بخلاف غيرهم من الأمم التى ما إن يغيب عنها نبيها حتى ترتد إلى الوثنية والكفر، والعياذ بالله، وكأنك يا أبا زيد ما غزوت!

وبالمناسبة فملاحدة النصارى يفسرون معجزات عيسى عليه السلام بأنها حِيَلٌ وتواطؤات مع المرضى الذين شفاهم أو أعادهم إلى الحياة، على حين أنهم (حسبما يقول هؤلاء الملحدون) لم يكونوا قد ماتوا ولا كانوا مرضى أصلا! كما أن الموتى الذين عادوا على يديه إلى الحياة لم يحدّثونا عما خَبَروه فى العالم الآخر. ولَعَمْرِى إنه لأمر غريب أن يسكتوا فلا يذكروا شيئا عن تلك التجربة العجيبة! وفوق هذا فما الفائدة التى عادت على العالم أو حتى على المجتمع الإسرائيلى أو الرومانى من عودة من أعادهم إلى الدنيا كرة أخرى؟ إنها معجزات وقتية لا قيمة لها إلا لمن شاهدها، بل لا قيمة لها إلا لمن كتب الله له الإيمان، وإلا فاليهود بوجه عام لم يولوا هذه المعجزات أية أهمية وظلوا يكفرون بالمسيح ويتهمون أمه بأنها بَغِىٌّ، فضلا عن تآمرهم عليه ليصلبوه لولا أن توفاه الله إليه وتركهم فى ظلمات لا يبصرون بعد أن شَبَّه لهم أنهم قتلوه فعلا! بل إن معظم الذين اتبعوه قد انحرفوا بدعوته أفظع الانحراف، إذ قلبوها رأسا على عقب وحولوها من التوحيد إلى الشرك الغبى الغليظ، والعياذ بالله! وها هى ذى الثمرة العطنة العفنة تطالعنا متمثلةً فى زيكو العجيب، ذى الدبر الرحيب!
كذلك فقد أحيا إيليّا ميِّتًا مثلما فعل عيسى، فهل نَعُدّه ابنا ثانيا لله؟ ولكن من أى زوجة يا ترى؟ وهل تعدد الزوجات معروف لدى الآلهة هم أيضا؟ خيَّبك الله يا شبه الرجال! وهذه قصة إيليّا حسبما حكاها الكتاب المقدس (الملوك الثانى/ 17): "وبعد هذه الأمور مرض ابن المرأة صاحبة البيت واشتدّ مرضه جدا حتى لم تبق فيه نسمة . 18 فقالت لايليا ما لي ولك يا رجل الله . هل جئت اليّ لتذكير اثمي واماتة ابني . 19 فقال لها اعطيني ابنك . واخذه من حضنها وصعد به الى العلية التي كان مقيما بها واضجعه على سريره 20 وصرخ الى الرب وقال ايها الرب الهي أايضا الى الارملة التي انا نازل عندها قد اسأت باماتتك ابنها . 21 فتمدد على الولد ثلاث مرات وصرخ الى الرب وقال يا رب الهي لترجع نفس هذا الولد الى جوفه . 22 فسمع الرب لصوت ايليا فرجعت نفس الولد الى جوفه فعاش 23 . فاخذ ايليا الولد ونزل به من العلية الى البيت ودفعه لامه. وقال ايليا انظري . ابنك حيّ . 24 فقالت المرأة لايليا هذا الوقت علمت انك رجل الله وان كلام الرب في فمك حق".

كما صنع أليشع نفس المعجزة فأحيا طفلا آخر لأمه، فهل نعدّه ابنا ثالثا لله، أستغفر الله؟ تكاثرت الظباء على خراشٍ * فما يدرى خراشٌ ما يصيد
وهذا ما كتبه مؤلفو الكتاب المقدس فى سفر "الملوك الثانى" (إصحاح رقم 4) عن هذه الحكاية: "32وَدَخَلَ أَلِيشَعُ الْبَيْتَ وَإِذَا بِالصَّبِيِّ مَيْتٌ وَمُضْطَجعٌ عَلَى سَرِيرِهِ. 33فَدَخَلَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ عَلَى نَفْسَيْهِمَا كِلَيْهِمَا، وَصَلَّى إِلَى الرَّبِّ. 34ثُمَّ صَعِدَ وَاضْطَجَعَ فَوْقَ الصَّبِيِّ وَوَضَعَ فَمَهُ عَلَى فَمِهِ، وَعَيْنَيْهِ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَيَدَيْهِ عَلَى يَدَيْهِ، وَتَمَدَّدَ عَلَيْهِ فَسَخُنَ جَسَدُ الْوَلَدِ. 35ثُمَّ عَادَ وَتَمَشَّى فِي الْبَيْتِ تَارَةً إِلَى هُنَا وَتَارَةً إِلَى هُنَاكَ، وَصَعِدَ وَتَمَدَّدَ عَلَيْهِ فَعَطَسَ الصَّبِيُّ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ فَتَحَ الصَّبِيُّ عَيْنَيْهِ. 36فَدَعَا جِيحْزِي وَقَالَ: «اُدْعُ هذِهِ الشُّونَمِيَّةَ» فَدَعَاهَا. وَلَمَّا دَخَلَتْ إِلَيْهِ قَالَ: «احْمِلِي ابْنَكِ». 37فَأَتَتْ وَسَقَطَتْ عَلَى رِجْلَيْهِ وَسَجَدَتْ إِلَى الأَرْضِ، ثُمَّ حَمَلَتِ ابْنَهَا وَخَرَجَتْ".
أما قول الغبى المحتال المختال زعيم العيال والأنغال إن عيسى عليه السلام يتميز عن سيد الأنبياء والمرسلين بأنه "قد خَلَتْ من قبله الرسل"، فهو ما لم أفهم مقصده منه، إذ إنه صلى الله عليه وسلم قد خلت الرسول من قبله هو أيضا. ألم يسبقه عيسى ويحيى وزكريا والْيَسَع وموسى وهارون وشُعَيْب وسليمان وداود ويعقوب وإسحاق وإسماعيل ولوط وإبراهيم وهود وصالح ونوح وغيرهم؟ اللهم إلا إذا كان المأفون لم يفهم معنى "خَلَتْ"، وهو ما أرجحه. بل ما من نبى إلا خلت من قبله الرسل ما عدا أول نبى بطبيعة الحال. بَيْدَ أنى، رغم ذلك، لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن أن يكون هذا ميزة لأحد من الأنبياء على أحد! أترى أول نبى كان يقل عمن جاءوا بعده لا لشىء إلا لأنه لم يَخْلُ قبله أحد من الرسل؟ أما إذا أصر المأفون على ما يهرف به بجهله الغليظ فإن محمدا عليه السلام يزيد على عيسى من هذه الناحية بدرجة، إذ إن عدد من خلا قبله من الرسل يزيد على من خلا قبل عيسى برسول هو عيسى نفسه. أليس كذلك؟ لا بل إن محمدا هو الذى يَفْضُل عيسى من هذه الناحية، فعيسى مَحُوطٌ بالمرسلين من قبل ومن بعد، أما الرسول الكريم فكان خاتم النبيين، وهو أمر لم يُكْتَب لأحد من إخوانه الكرام، فهو الختام الِمْسك الذى بلغت على يديه الكريمتين ظاهرة النبوة أسمق مستوياتها، ولم يعد هناك من جديد يمكن أن يضاف إليها، وبخاصة أن الكتاب الذى أتى به ما زال باقيا على حاله الأول غَضًّا نضرًا لم تمتد يد التضييع أو التزييف والعبث إليه على عكس الكتب السابقة عليه، وبالذات كتابا عيسى وموسى. أعتقد أن الأمر واضح، وأن مأفوننا لا عقل لديه ولا فهم، وأنه يردد كالمعاتيه كلاما لا يعنى شيئا!
لقد رأيت الرجل مرة فى المرناء عند أحد أقاربى الذين كانوا يسألوننى رأيى فى ذلك الكائن فطلبت منهم أن يُرُونى حلقة من حلقات برنامجه الذى يهاجم فيه الإسلام ورسوله العظيم، فوجدته ينتفش كالديك وهو يرد على ما كتبه المرحوم ديدات، وكأنه قد أُوتِىَ علم الأولين والآخرين جميعا، مع أنه (كما اتضح الآن، وكما سوف يزداد وضوحا مع كل سطر نكتبه هنا) من أجهل الجهلاء وأبلد البلداء وأغلظهم حِسًّا وأعماهم عقلاً وفهمًا! ووالله لقد حاك فى صدرى قبل أن أراه وأقرأ له أنه لابد أن يكون على شىء من الذكاء والمعرفة، فإذا بى آخذ مقلبا لم آخذه من قبل! خيَّبك الله يا زيكو خيبةً لم يَخِبْها أحد! أهذا كل ما عندك؟ لقد تيقنت الآن أنه ما فى الدنيا من قسيس واحد عليه الطلاوة فى العلم أو فى العقل! وهذا فى واقع الأمر طبيعى جدا، فإن من يؤمن بما يؤمن به هؤلاء البشر لا يمكن أن يكون ذا عقل سليم مستقيم!

إن ما قاله القرآن هنا ليجرى فى عكس الاتجاه الذى يلوى القُمّصُ الغبىُّ الآيةَ نحوه، فالقرآن يقول: "ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" (المائدة/ 75)، ومعناه أن المسيح لا يمكن أن يكون إلها أو ابن إله، إنما هو واحد من الرسل الكثيرين الذين مَضَوْا من قبله، فكما كانوا بشرا فهو أيضا مثلهم بشر من البشر. وعلى أية حال فقد قيل الشىء نفسه عن محمد عليه الصلاة السلام، وبنفس التركيب، وهذا هو: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" (آل عمران/ 144)، وكان ذلك حين ظُنّ فى معركة أُحُد أنه قد مات (صلى الله عليه وسلم، ومسح الأرض بكرامة من يتطاول عليه من كل كلب وثنى عابد للبشر عُتُلٍّ زنيم)، فقال الله لهم إن محمدا ليس إلا رسولا كسائر الرسل الذين سبقوه، وسيموت كما ماتوا، ولا معنى لانقلاب أحد على عقبيه بعد موته، لأن اللهَ صاحبَ الدين حىٌّ لا يموت، أما محمد فلم يكن إلا رسولا جاء ليبلغ العِبَاد دعوة الله!
ومما يظن الأحمق أنه يستطيع الشغب به على المسلمين قوله إن عيسى كان مبارَكا، أما محمد فلا. ولا أدرى من أين له بأن عيسى وحده هو الذى بورك دون الأنبياء جميعا. لقد ذكر القرآن، الذى يعتمد عليه أحمقنا فى محاولة التنقص من سيد الرسل والنبيين، أن البركة قد أُنْزِلَتْ على أشياء وأشخاص كثيرين، لا على عيسى وحده، كما أن البركة فى غير حالة عيسى عليه السلام قد تُذْكَر بلفظ آخر، أو يُذْكَر ما يزيد عليها فى الإكرام والمحبة. فبعض أجزاء الأرض قد باركها الله: "وأورثْنا القومَ الذين كانوا يُسْتَضْعَفون مشارق الأرض ومغاربها التى باركْنا فيها" (الأعراف/ 137)، والمسجد الأقصى بارك الله حوله: "سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله" (الإسراء/ 1)، والموضع الذى رأى موسى فيه النار فى سيناء قد بارك الله حوله أيضا: "فلما جاءها نُودِىَ أنْ بُورِكَ مَنْ فى النار ومَنْ حولها" (النمل/ 8)، وإبراهيم وإسحاق قد بارك الله عليهما: "وباركنا عليه وعلى إسحاق" (الصافات/ 113)، وهناك نوح والأمم التى كانت مع نوح، وقد بارك الله عليه وعليهم حسبما جاء فى كلامه سبحانه له: "يا نوح، اهبط (أى من السفينة بعد انحسار الطوفان) بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك" (هود/ 48)، وهناك البيت الحرام، وقد باركه الله: "إن أول بيت وُضِع للناس لَلّذِى ببَكَّةَ مباركا وهدى للعالمين" (آل عمران/ 96)، وكذلك القرآن الكريم، وقد جعله الله مباركا أيضا: "وهذا ذِكْرٌ مباركٌ أنزلناه، أفأنتم له منكرون؟" (الأنبياء/ 50)، كما أن الليلة التى أُنْزِلَ فيها هذا الذكر هى أيضا ليلة مباركة: "إنا أنزلناه فى ليلة مباركة" (الدخان/ 3).

أما بالنسبة لنبينا، عليه وعلى كل الأنبياء الكرام أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، فقد جاء فى القرآن أنه عز وجل يريد أن يُذْهِب الرِّجْس عن أهل بيته جميعا ويطهِّرهم تطهيرا: "إنما يريد الله لِيُذْهِب عنكم الرِّجْس أهل البيت ويطهِّركم تطهيرا" (الأحزاب/ 33) ، كما أثنى المولى عليه أعطر الثناء، وذلك فى قوله: "وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم" (القلم/ 4) ، وقوله: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (الأنبياء/ 107)، وقوله: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عَنِتُّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ" (التوبة/ 128)، وقوله: "رسولاً يتلو عليكم آياتِ الله مبيِّناتٍ ليُخْرِج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور" (الطلاق/ 11)، وقوله: "من يُطِعِ الرسولَ فقد أطاع الله" (النساء/ 80)، وقوله: "إن الله وملائكته يصلّون على النبى. يا أيها الذين آمنوا َصَلُّوا عليه وسَلِّموا تسليما" (الأحزاب/ 56). والحق أن ما قاله سبحانه وتعالى فى تكريم حبيبه محمد فى هذه الآيات وغيرها لم ينزل مثله فى أى نبى آخر، وإن لم يكن مقصدنا هنا المقارنة بينه صلى الله عليه وسلم وبين إخوانه الكرام، اللهم إلا ردا على ذلك الأحمق الذى يريد أن يثيرها نعرة جاهلية رعناء. ولقد بلغ من عظمة نفسه عليه السلام ونبل أخلاقه أنْ نَهَى أتباعه عن تفضيله على أى من إخوانه الكرام كما يتبين من الأحاديث التالية: ‏‏عن ‏ ‏أبي هريرة ‏ ‏رضي الله عنه ‏ ‏قال: ‏استبَّ رجلان: ‏ ‏رجل ‏ ‏من المسلمين ‏ ‏ورجل ‏ ‏من ‏ ‏اليهود. ‏‏قال المسلم: والذي اصطفى ‏ ‏محمدا على العالمين. فقال اليهودي: والذي اصطفى ‏‏ موسى ‏ ‏على العالمين. فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فدعا النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏المسلم فسأله عن ذلك فأخبره، فقال النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم: ‏لا تخيِّروني على موسى ‏ ‏فإن الناس ‏ ‏يصعقون ‏ ‏يوم القيامة ‏ ‏فأصعق ‏ ‏معهم فأكون أول من يفيق، فإذا ‏‏موسى باطش جانب العرش، فلا أدري أكان فيمن ‏صعق ‏ ‏فأفاق قبل أو كان ممن استثنى الله". ‏وعن ‏ ‏أبي هريرة ‏أيضا ‏قال: "قال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم: ‏ ‏إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ‏ ‏يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم.‏ ‏قال: ولو لبثتُ في السجن ما لبث ‏ ‏يوسف‏ ‏ثم جاءني الرسول أجبتُ. ثم قرأ:‏ فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن". و‏عن ‏ ‏ابن عباس عن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏قال: ‏"ما ينبغي لعبد أن يقول إني خير من ‏ ‏يونس بن متى". ‏
ولم نكن لنحبّ أن ندخل فى هذا المضيق، إلا أن للضرورة أحكاما، إذ لم يكن متصوَّرا أن يهبّ الوثنيون فى هذا العصر فيتطاولوا على سيد الأنبياء جهارا نهارا، فكان لا مناص من إلجامهم بلجام الخَرَس حتى يعرفوا حدودهم ويلزموها فلا يُقِلّوا أدبهم عليه، أخزى الله كل وثنى حقير. وبالمناسبة فتكملة الآية الكريمة التى جاء فيها على لسان المسيح أن الله قد جعله مباركا هى "وأوصانى بالصلاة والزكاة ما دمت حيا" (مريم/ 31). أى أنه عبد له سبحانه وتعالى لا ربٌّ مثله ولا ابنٌ له كما يدَّعى القوم، ولذلك أمره الله بالصلاة والزكاة ما دام حيا، إذ الرب لا يُؤْمَر ولا يُنْهَى، بل الذى يُؤْمَر ويُنْهَى هو العبد. لكن القُمّص البكاش الذى سيحرقه الله فى نار جهنم التى خلقت له ولأمثاله ما لم يَتُبْ ويؤمن بمحمد كما فعل كثير من القساوسة والأساقفة والقمامصة والشمامسة الذين كانوا يحاربون الله ورسوله ثم كتب الله لهم الهداية فيُقِرّ بالحقيقة التى يعرفها لكنه، ككل بكاش مثله، يكتمها فى قلبه من أجل حظوظ الدنيا وما يجنيه من مال حرام سوف يكويه فى جوفه يوم القيامة ويُشْوَى به جنباه ووجهه وظهره، هذا القُمّص البكاش يتجاهل هذا ولا يستشهد به حتى لا تنكشف فضيحته!

كذلك جاء فى كلام القُمّص الأرعن الأحمق أن عيسى عليه السلام سيأتى حَكَمًا مُقْسِطًا بدليل الحديث التالى الذى أورده البخارى: "لن تقوم الساعة حتى ينزل فيكم (أى بينكم) ابن مريم حكمًا مقسطًا (أى عادلا)"، والذى يفسر غبيُّنا لفظَ "المقسط" فيه بأنه اسم من أسماء الله الحسنى، بما يفيد أن عيسى هو الله أو على الأقل ابن الله، إذ ذكر أن "المعجم الوسيط" قد شرح "المقسط" بأنه اسم من أسماء الله الحسنى. ثم ختم كلامه قائلا: "وماذا عن محمد؟". وهذا الكلام هو تخبيص فى تخبيص! إنه شغل عيال بكل معنى يمكن، أيها القارئ، أن يخطر فى بالك لكلمة "العيال"!
أتدرى لماذا؟ لأن هذا الحديث وأمثاله من الآثار التى تتحدث عن عودة المسيح عليه السلام إلى الدنيا إنما تؤكد ما يَسُوء وجهَ هذا المنافق ويكشف سوأته المنتنة، تلك السوأة التى لا تعرف النظافة لأن صاحبها واحد من الأقذار الذين يَسْخَرون من شعائر الطهارة الموجودة فى دين سيد الأنقياء محمد عليه الصلاة والسلام. ذلك أن تلك الأحاديث إنما تتحدث عن رجوع المسيح ليكسر الصلبان ويحطم أوعية الخمور ويقتل الخنزير ويدعو الناس بدعوة التوحيد التى أتى بها نبينا عليه السلام وضلّ عنها من يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه السلام وينسخ التثليث الذى انحرف إليه القوم ويتبرأ منهم على رؤوس الأشهاد. لكن الماكر الخبيث، وإن كان خبثه مع هذا خبثًا عياليًّا، يقتطع من هذه الأحاديث جملة ينتزعها من سياقها ظانًّا أنه يمكن أن يُجْلِب بها على العقول ويمضى فى سبيله دون أن يعقب عليه أحد ويهتك ستر سوأته المنتنة ليراها الناس على حقيقتها من القبح والتدويد ويشموا نتنها فيلعنوها هى وصاحبها لعنة تصل إلى السماء السابعة وتستجاب فى الحال!
‏نقرأ مثلا فى "صحيح البخارى": "حدثنا ‏ ‏إسحاق ‏ ‏أخبرنا ‏ ‏يعقوب بن إبراهيم ‏ ‏حدثنا ‏ ‏أبي ‏ ‏عن ‏ ‏صالح ‏ ‏عن ‏ ‏ابن شهاب ‏ ‏أن ‏ ‏سعيد بن المسيَّب ‏سمع ‏ ‏أبا هريرة ‏ ‏رضي الله عنه ‏‏قال: قال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم:‏ ‏والذي نفسي بيده ‏‏ليُوشِكَنّ أن ينزل فيكم ‏ ‏ابن مريم ‏‏حَكَمًا عَدْلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع ‏ ‏الجزية ‏ ‏ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها". ويقول صاحب "فتح البارى بشرح صحيح البخارى" فى تعليقه على هذا الحديث: "روى مسلم من حديث ابن عمر في مدة إقامة عيسى بالأرض بعد نزوله أنها سبع سنين. وروى نعيم بن حماد في "كتاب الفتن" من حديث ابن عباس أن عيسى إذ ذاك يتزوج في الأرض ويقيم بها تسع عشرة سنة، وبإسناد فيهم مبهم عن أبي هريرة: يقيم بها أربعين سنة. وروى أحمد وأبو داود بإسناد صحيح من طريق عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة مثله مرفوعا. وفي هذا الحديث "ينزل عيسى عليه ثوبان ممصران فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، وتقع الأَمَنَة في الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل وتلعب الصبيان بالحيّات. وقال في آخره: ثم يُتَوَفَّى ويصلي عليه المسلمون". وروى أحمد ومسلم من طريق حنظلة بن علي الأسلمي عن أبي هريرة: "لَيُهِلَّنّ ابنُ مريم بفجّ الروحاء بالحج والعمرة" الحديث. وفي رواية لأحمد من هذا الوجه: ينزل عيسى فيُقْتَل الخنزير ويُمْحَى الصليب وتُجْمَع له الصلاة ويُعْطَى المال حتى لا يُقْبَل ويضع الخراج، وينزل الروحاء فيحجّ منها أو يعتمر أو يجمعهما". ولكى يعرف القراء الكرام مدى الخبث الخائب الذى يلجأ إليه زيكو العبيط أسوق إليهم كاملا نص الحديث الذى اقتطع منه المحتال الدجال الذى يُفْعَل فيه ما يُفْعَل بالعيال ما اقتطع. جاء فى "صحيح البخارى": "‏حدثنا ‏ ‏قتيبة بن سعيد ‏ ‏حدثنا ‏ ‏الليث ‏ ‏عن ‏ ‏ابن شهاب ‏ ‏عن ‏ ‏ابن المسيب ‏أنه سمع ‏ ‏أبا هريرة ‏ ‏رضي الله عنه ‏ ‏يقول: ‏قال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم:‏ ‏والذي نفسي بيده‏‏ لَيُوشِكَنّ أن ينزل فيكم ‏ ‏ابن مريم ‏ ‏حَكَمًا مُقْسِطًا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع ‏ ‏الجزية ‏ ‏ويفيض المال حتى لا يقبله أحد". ويشبهه ما جاء فى "مسند أحمد بن حنبل": "حدثنا ‏ ‏سفيان ‏ ‏عن ‏ ‏الزهري ‏ ‏عن ‏ ‏سعيد ‏ ‏عن ‏ ‏أبي هريرة ‏يبلغ به النبيَّ ‏صلى الله عليه وسلم:‏‏ يوشك أن ينزل فيكم ‏ ‏ابن مريم ‏ حَكَمًا مُقْسِطًا ‏يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع ‏ ‏الجزية ‏ ‏ويفيض المال حتى لا يقبله أحد"، وكذلك ما جاء فى "سنن الترمذى": ‏حدثنا ‏ ‏قتيبة ‏ ‏حدثنا ‏ ‏الليث بن سعد ‏ ‏عن ‏ ‏ابن شهاب ‏ ‏عن ‏ ‏سعيد بن المسيب ‏ ‏عن ‏ ‏أبي هريرة ‏أن رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال: والذي نفسي بيده ‏‏ ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن ‏ ‏مريم حَكَمًا مُقْسِطًا ‏فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع ‏ ‏الجزية ‏‏ويفيض المال حتى لا يقبله أحد". ثم إن الأحاديث التى وردت فى هذا الموضوع تسمِّى كلُّها السيدَ المسيح: "ابن مريم"، أى أنه مولود لمريم، على حين أن القرآن الكريم ينفى نفيا قاطعا أن يكون الله قد وَلَدَ أو وُلِدَ، وهو ما يعنى أن الله لا يكون أبا أو ابنا، لكن البكّاش الهجّاس يتجاهل هذا كله ويريد أن نتخلى عن عقولنا وديننا وتوحيدنا ونجرى وراءه إلى العقائد الوثنية!
أما التحايل المتهافت الذى يتخابث به تافهنا من خلال الاستشهاد بــ"المعجم الوسيط" على أن "المقسط" هو اسم من أسماء الله الحسنى، فنفضحه بالإشارة إلى أن النبى الكريم قد وُصِف هو أيضا (وفى القرآن لا فى الحديث) بأنه رؤوف رحيم وكريم وحق وشهيد، وهى من أسماء الله الحسنى أيضا، كما وُصِف خُلُقه بأنه "عظيم"، وهو اسم آخر من تلك الأسماء الكريمة. كما أُمِر الرسول بأن يكون من المقسطين، و"المقسط" من أسماء الله الحسنى حسبما نقل التافه الغليظ العقل عن "المعجم الوسيط". قال تعالى: "لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عَنِتُّم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم"، "إنه (أى القرآن) لَقَوْلُ رسولٍ كريمٍ" (الحاقة/ 40)، "وشهدوا أن الرسول حق" (آل عمران/ 86)، "لتكونوا شهداء على الناس ويكونَ الرسول عليكم شهيدا" (البقرة/ 143)، "وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم" (القلم/ 4)، "وإن حَكَمْتَ فاحكم بينهم بالقِسْط، إن الله يحب الـمُقْسِطين" (المائدة/ 42). وبناءً على هذا المنطق العيالى فالرسول محمد هو إله أو ابن الإله! وسلم لى على المنطق يا أبا الزيك! نقرك الديك، فى دبرك الهَتِيك!

إنه قلّما كان اسم من أسماء الله إلا أمكن استخدامه للبشر، إلا أنه بالنسبة إلى الله يكون مطلقا، أما فى حالة البشر فهو مقيَّد محدود. كذلك فقد قال الحديث إن "ابن مريم" (لاحظ: "ابن مريم" لا "ابن الله" ولا "الله" ذاته) سوف ينزل "حَكَمًا مٌقْسِطا"، بتنكير كلمة "حَكَم"، وكأنه فرد فى مجموعة من جنسه، مع أنه سبحانه وتعالى هو الواحد الأحد، الذى ليس كمثله أحد. كما أن الله لا ينزل من رَحِم امرأة وفَرْجها ويخالط الناس ويمشى وسطهم ويأكل ويشرب ويتبول ويتبرز ويتقايأ وتصيبه الأمراض والمخاوف مثلهم حسبما تقول عقيدة القوم، ودعنا الآن من صلبه وقتله وطعنه بالرمح فى جنبه وشتمه وإهانته وصراخه من الألم والعذاب طالبا النجدة (النجدة ممن، إذا كان الله نفسه هو الذى يُضْرَب ويُقْتَل ويهان؟)، فضلا عن أن يُتَوَفَّى ويُصَلَّى عليه (يُصَلَّى"عليه" لا "له")، تعالى الله عن أن يُتَوَفَّى أو يُصَلِّىَ عليه أحد! وأخيرا فــ"المعجم الوسيط" (وغير الوسيط أيضا بطبيعة الحال) لا يقصد أن معنى "المقسط" ينحصر فى أنه اسم "من أسماء الله الحسنى" وحَسْب، بل يذكر ذلك على أنه معنى من المعانى التى تُسْتَخْدَم فيها الكلمة، وإلا فقد ورد هذا اللفظ فى القرآن عدة مرات منسوبا للبشر كما هو معروف، إذ قال عَزّ شأنه مثلا: "إن الله يحب المقسطين" (المائدة/ 42، والحجرات/ 9، والممتحنة/ 8)، إلا أن البكّاش النتّاش يسوق الكلام وكأنه لا معنى لهذا اللفظ غير ما قال.
خيبة الله مرة ثانية عليك يا زكازيكو! أتظن أن الناس كلهم كتلك البنت المسكينة التى نَجَحْتَ فى خداعها لبعض الوقت أنت والعيال أمثالك بمثل هذه الصبيانيات، والتى ألومها أشد اللوم أَنِ استطاع هذا البغل الأسترالى أن يثير شكوكها فى دينها، وهى التى تخرجت من الجامعة! لقد كان ينبغى أن تتلاعب هى به وتجعل منه مُسْخَةً لكل رائحٍ وغادٍ شأن أى واحد أو واحدة من أتباع النبى الكريم، لكن أوضاع التعليم وكسل الطلاب والطالبات قد أثمرا هذه الثمرات العطنة. ومع ذلك فقد كشف الله للفتاة المخدوعة الغطاء عن حقيقة هذا القَذِر قبل فوات الأوان وردها ردا جميلا إلى دين التوحيد، وإلا لهلكت وثنية كافرة، والعياذ بالله! أما أنتِ يا أمة محمد يا من تناشدين هذا وذاك من أمثال بغلنا الزنيم أن يتدخلوا لثَنْيه عن سبّ النبى، فلعنة الله عليك من أمة منحطة وصل بها الحال إلى هذا الدرك الأسفل من المذلة والهوان، إذ جعلتِ أعداءك الذين تستنجدين بهم يضحكون منك ملء أردانهم فى تَشَفٍّ وتلذذٍ! إن محمدا ليبرؤ من كل ذليل يهون على نفسه وعلى الآخرين، ويُطْمِع العدوَّ فيه ويعطيهم الفرصة ليضحكوا منه وعليه! أَوَمِثْل زيكو هذا يستحق أن يُنَاشَد أحد لإسكاته؟ أليس فى رِجْل البُعَداء صَرْمَةٌ قديمةٌ يقذفونه بها فى فمه المنتن؟ يا رسول الله، إنى أعتذر إليك مما فعلته هذه الأمة، وأستميحك العفو!
ولا يكتفى الكذاب بهذا، بل يضيف كذبة أخرى قائلا إن عيسى عليه السلام، طبقا لما يقول القرآن، سوف يكون شفيعا فى الدنيا والآخرة. وقد استشهد على هذه الكذبة المنتنة نتانة فمه وسوأته بقوله تعالى عن ابن مريم عليه السلام مخاطبا أمه على لسان الملائكة: "يا مريم، إن الله يبشّرك بكلمةٍ منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها فى الدنيا والآخرة ومن المقربين ". وهذا نص كلامه: "شفيعاً فى الدنيا والآخرة : (1) سورة ( آل عمران 3 : 45) " اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها فى الدنيا والآخرة ومن المقربين". (2) [ابن كثير ج1 ص 283] "وفى الدار الآخرة يشفع عند الله ..."، ثم يختم كالعادة بالسؤال التالى: "وماذا عن محمد؟". والملاحظ أولا أن القرآن الذى يستشهد به هذا الأفاق لم يذكر الشفاعة لعيسى بل لم يشر إليها مجرد إشارة، وكل ما قاله أنه سيكون "وجيها فى الدنيا والآخرة ومن المقربين". إنما قال ذلك ابن كثير، وهو مجرد اجتهاد من عنده لا يُلْزِمنا بشىء ما دام لم يَسُقْ لنا الحيثيات التى أقام عليها هذه الدعوى. إن فى القرآن كلاما عن ابن مريم يوم القيامة يصوره عليه السلام وهو واقف أمام ربه يسأله عما أتاه أتباعه من بعده من تأليههم له سؤال الرب للعبد الخائف الراجف الذى يعرف حدوده جيدا، فهو يسارع بالتنصل من هذا الكفر الشنيع وممن قالوه. وحتى لو كانت له عليه السلام فى ذلك الموقف شفاعة، فما الذى فى هذه المكرمة مما يشنَّع به على محمد عليه الصلاة والسلام؟

إن محمدا عليه الصلاة السلام لهو صاحب الشفاعة العظمى حسبما نَصَّ على ذلك كثير من الأحاديث النبوية. روى البخارى عن ‏أنس ‏‏رضي الله عنه ‏‏أن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال: ‏ ‏"يُحْبَس المؤمنون يوم القيامة حتى يهمّوا بذلك فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا. فيأتون ‏ ‏آدم ‏ ‏فيقولون: أنت ‏ ‏آدم ‏ ‏أبو الناس. خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلَّمك أسماء كل شيء. لِتَشْفَعْ لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا. قال: فيقول: لستُ هُنَاكم، قال: ويذكر خطيئته التي أصاب: أكْله من الشجرة وقد نُهِيَ عنها، ولكن ائتوا ‏ ‏نوحا ‏أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض. فيأتون ‏نوحا ‏فيقول: لستُ هُنَاكم، ويذكر خطيئته التي أصاب: سؤاله ربه بغير علم، ولكن ائتوا ‏ ‏إبراهيم خليل الرحمن. ‏قال: فيأتون ‏ ‏إبراهيم، ‏ ‏فيقول: إني لست هُنَاكم، ويذكر ثلاث كلمات كَذَبَهُنّ، ولكن ائتوا ‏‏موسى ‏عبدا آتاه الله التوراة وكلَّمه وقرَّبه نَجِيًّا. قال: فيأتون ‏ ‏موسى، ‏فيقول: إني لستُ هُنَاكم، ويذكر خطيئته التي أصاب: قَتْله النفس، ولكن ائتوا ‏عيسى ‏عبد الله ورسوله وروح الله وكلمته. قال: فيأتون ‏ ‏عيسى، ‏فيقول: لستُ هُنَاكم، ولكن ائتوا ‏ ‏محمدا ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني فأستأذن على ربي في داره فيؤذَن لي عليه، فإذا رأيته وقعتُ ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، فيقول: ارفع ‏ ‏محمد، ‏وقل يُسْمَعْ، واشفع تُشَفَّعْ، وسَلْ تُعْطَ. قال: فأرفع رأسي فأُثْنِي على ربي بثناء وتحميد يعلِّمنيه، ثم أشفع فيحدّ لي حدًّا، فأخرج فأُدْخِلهم الجنة. قال ‏ ‏قتادة: ‏ ‏وسمعته ‏ ‏أيضا يقول: ‏ ‏فأَخْرُج فأُخْرِجهم من النار وأُدْخِلهم الجنة ثم أعود الثانية فأستأذن على ربي في داره فيؤذَن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفع ‏محمد، ‏وقل يُسْمَعْ، واشفع تُشَفَّعْ، وسَلْ تُعْطَ. قال: فأرفع رأسي فأُثْنِي على ربي بثناء وتحميد يعلِّمنيه. قال: ثم أشفع فيحدّ لي حَدًّا فأخرج فأُدْخِلهم الجنة. ‏قال ‏ ‏قتادة: ‏‏وسمعته يقول ‏ ‏فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ثم أعود الثالثة فأستأذن على ربي في داره فيؤذَن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول: ارفع ‏محمد، ‏وقل يُسْمَعْ، واشفع تُشَفَّعْ، وسَلْ ‏تُعْطَه. قال: فأرفع رأسي فأُثْنِي على ربي بثناءٍ وتحميدٍ يعلّمنيه. قال: ثم أشفع فيحدّ لي حدًّا فأخرج فأُدْخِلهم الجنة. ‏قال ‏قتادة: ‏‏وقد سمعته يقول: ‏ ‏فأَخْرُج فأُخْرِجهم من النار وأُدْخِلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن، أي وجب عليه الخلود. قال: ثم تلا هذه الآية: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا. ‏قال: ‏‏وهذا المقام المحمود الذي وُعِدَه نبيكم ‏ ‏صلى الله عليه وسلم"، وهو ما يدل على أنه لا شفاعة لابن مريم فى ذلك الموقف، بل ستكون الشفاعة لسيدنا محمد عليه السلام وحده من دون الأنبياء والرسل. وهذه إحدى المكرمات التى اخْتُصَّ بها سيدنا النبى صلى الله عليه وسلم، وإن كان هذا لا ينال من عيسى ولا غيره من المرسلين فى شىء، فتقديم أحد الأنبياء على سائر إخوانه لا يسىء إليهم فى قليل ولا كثير، فكلهم مكرَّمون معظَّمون بفضل الله، لكنه يدل على أن صاحب التقديم قد اخْتُصَّ بمزيد من التكريم والتعظيم. وهذا هو وضع المسألة دون طنطنات ولا سخافات فارغة من تلك التى يبرع فيها أحلاس الجهل والحقد والكفر، أخسأ الله كل جاهل حاقد كفور!

أما ما نقله الكذَّاب المدلِّس عن ابن كثير فقد عبث به كعادته ليبلغ غاية فى نفسه، إذ أخذ منه ما يريد وحَذَف ما لا يريد، لكن الله لم يتركه يهنأ بتلك الغاية، إذ ذهب العبد لله إلى ابن كثير فألفيتُه يقول فى تفسير قوله تعالى عن المسيح بن مريم عليه السلام: "وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ": "أَيْ لَهُ وَجَاهَة وَمَكَانَة عِنْد اللَّه فِي الدُّنْيَا بِمَا يُوحِيه اللَّه إِلَيْهِ مِنْ الشَّرِيعَة وَيُنْزِلهُ عَلَيْهِ مِنْ الْكِتَاب وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا مَنَحَهُ اللَّه بِهِ وَفِي الدَّار الآخِرَة يَشْفَع عِنْد اللَّه فِيمَنْ يَأْذَن لَهُ فِيهِ فَيَقْبَل مِنْهُ أُسْوَة بِإِخْوَانِهِ مِنْ أُولِي الْعَزْم صَلَوَات اللَّه وَسَلامه عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ". ومعنى هذا، لو أخذنا بتفسير ابن كثير، أن عيسى لن تكون له هنا أية ميزة استثنائية، سواء بالنسبة لرسولنا محمد خصوصا أو بالنسبة للأنبياء كلهم عموما، فالشفاعة ستكون للجميع، وليس لعيسى وحده كما أراد هذا الأُبَيْلِيس أن يوهمنا كذبًا وزورًا. بَيْدَ أن الشفاعة العظمى إنما هى من نصيب سيد الأنبياء والمرسلين كما ورد فى الحديث الآنف الذكر. أما الشفاعة النصرانية التى تكلم عنها سفر "رؤيا يوحنا" (تلك الرؤيا التى حلم بها وهو يعانى من قرصات الجوع المؤلمة المربكة للعقل فجعلت هذا الخروف يتخيل ربه خروفا مثله) فهى شفاعةٌ خِرْفانيةٌ لا يليق بالآدميين المتحضرين المثقفين أن يناقشوها، فلنتركها للخروف زيكو عابد الخروف!
ومن ادعاءاته الطفولية قوله إن عيسى قد أُصْعِد إلى السماء حيا، فماذا عن محمد؟ والجواب هو أن محمدا قد عُرِج به إلى السماوات العلا حتى بلغ سدرة المنتهى كما ذكر القرآن الذى تُحَاجِجُنا به. هذه واحدة، والثانية هى أن النص القرآنى ليس قاطع الدلالة فى موضوع صعود عيسى عليه السلام بالجسد ولا صعوده حيًّا، إذ تقول الآية الكريمة: "إذ قال الله: يا عيسى، إنى متوفيك ورافعك إلىَّ" (آل عمران/ 55). وليس فيها على سبيل القطع الذى لا تمكن المماراة فيه أنه سبحانه قد أصعده إلى السماء حيًّا بجسده. إن من المسلمين من يفهم تلك الآية كما فهمها القُمّص، لكن هناك أيضا من المسلمين من يقولون بالوفاة العادية ورِفْعَة المكانة لا الجسد. وعلى أية حال هل هناك فرق كبير بين قوله سبحانه عن السيد المسيح وبين قوله عن إدريس عليهما السلام: "واذْكُرْ فى الكتاب إدريس، إنه كان صِدِّبقًا نبيًّا* ورفعناه مَكانًا عَلِيًّا" (مريم/ 56- 57)؟ ثم إن الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى ذكر كذلك أن إيليّا قد رفعه الله إليه أيضا بالمعنى المادى، أى أصعد جسده إلى السماء: "وَفِيمَا هُمَا يَسِيرَانِ وَيَتَكَلَّمَانِ إِذَا مَرْكَبَةٌ مِنْ نَارٍ وَخَيْلٌ مِنْ نَارٍ فَصَلَتْ بَيْنَهُمَا، فَصَعِدَ إِيلِيَّا فِي الْعَاصِفَةِ إِلَى السَّمَاءِ. وَكَانَ أَلِيشَعُ يَرَى وَهُوَ يَصْرُخُ: «يَا أَبِي، يَا أَبِي، مَرْكَبَةَ إِسْرَائِيلَ وَفُرْسَانَهَا». وَلَمْ يَرَهُ بَعْدُ" (ملوك 2/ 2/ 11- 12). إننى، كما قلت من قبل، لا أبغى أبدا التقليل من شأن سيدنا عيسى عليه السلام، على الأقل لأننا نحن المسلمين نَعُدّ أنفسنا أتباعه الحقيقيين ونرى أن أولئك الذين يدّعون أنهم أتباعه قد كفروا به وضلّوا عن سواء السبيل وأشركوا بالله ما لم ينزِّل به سلطانا. كل ما هنالك أننا نحاول أن نقدم صورة منطقية ومستقيمة وصحيحة فى المقارنة بين النبيين العظيمين: محمد وعيسى عليهما السلام، صورة تُظْهِرهما فى أبعادهما الصحيحة على أساس أن عيسى هو من محمد بمثابة الأخ الأصغر: سنًّا وإنجازًا وأثرًا. وهذا كل ما هنالك. وفى النهاية نقول: فلنفترض أن عيسى قد أُصْعِد فعلا بجسده إلى السماء وأنه هو وحده الذى حدث له ذلك، فالسؤال حينئذ هو: وماذا بعد؟ وما الفائدة التى عادت على الدعوة من جراء هذا؟ لقد انحرف أتباعه أضلّ انحراف بسبب هذا الصعود وغيره وأشركوه مع الله، وهو البشر الضعيف العاجز الفانى!

ويتبقى كلام ذلك الخروف عن مسح عيسى عليه السلام من الأوزار وسؤاله المعتاد فى آخر الكلام: "وماذا عن محمد؟"، وهذا ما قاله نَصًّا:"ممسوح من الأوزار: (أنظر حتمية الفداء ص 24): (1) [سورة مريم]. (2) [سورة آل عمران]. (3) الإمام الرازى ج3 ص 676. (4) أبى هريرة. (5) صحيح البخارى. وماذا عن محمد؟". وهو بإشارته إلى سُورَتَىْ "آل عمران" إنما يقصد قوله تعالى عن امرأة عمران (أم مريم عليها السلام) وإعاذتها إياها هى وذريتها عند ولادتها من الشيطان الرجيم: "فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" (آل عمران/ 36)، أما سورة "مريم" فلم أجد فيها شيئا يتعلق بالموضوع الذى نحن بإزائه. وبالنسبة لما جاء فى "آل عمران" فليس فيه سوى أن زوجة عمران قد استعاذت لابنتها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم، وهو ما يفعله كل مؤمن لنفسه ولأولاده. وفى تفسير الرازى: "روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من استعاذ في اليوم عشر مرات وَكّل الله تعالى به مَلَكًا يَذُود عنه الشيطان". وفى "سنن أبى داود" عن ابن عمر أن رسول الله قال: "من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطُوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه. فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تَرَوْا أنكم قد كافأتموه".
فليس فى الآية فى حد ذاتها إذن ما يدل على أن عيسى عليه السلام كان ممسوحا وحده من الأوزار دون الأنبياء والمرسلين، وإن كنا نؤمن أنهم جميعا عليهم الصلاة السلام، كانوا من خيرة صفوة البشر، وكانت أخلاقهم من السمو والرفعة بحيث تتلاءم مع المهمة الجليلة التى انتدبهم الله لها من بين سائر البشر. ومع هذا فهناك مثلا، فى مسند ابن حنبل، حديث عن النبى عليه السلام رواه أبو هريرة يقول فيه: ‏"ما من مولود يُولَد إلا ‏ ‏نخسه الشيطان ‏ ‏فيستهلّ صارخا من ‏ ‏نخسة الشيطان ‏ ‏إلا ‏‏ ابن مريم ‏ ‏وأمه. ‏‏ثم قال ‏ ‏أبو هريرة: ‏اقرءوا إن شئتم: وإنى أُعِيذُها بك وذريتها من الشيطان الرجيم". وفى "سنن الدارمى" عن ابن عباس أنه قال: "‏ليس من مولود إلا ‏ ‏يستهلّ، ‏ ‏واستهلاله ‏ ‏يعصر الشيطان بطنه، فيصيح إلا ‏ ‏عيسى ابن مريم". وليس فيه، كما هو واضح، أية إشارة إلى مسحه عليه السلام من الأوزار والخطايا، بل الكلام فيه عن نخسة الشيطان التى يبكى الطفل بسببها عند الولادة أول ما يستقبل الحياة والتى يقول الأطباء إن سببها هو استنشاقه لأول مرة الهواء استنشاقا مباشرا، فهو رد فعل بيولوجى لا مَعْدَى عنه لأى طفل. لكنْ لأن ولادة عيسى كانت ولادة غير طبيعية فلربما كان ذلك هو السبب فى أنه لم يصرخ عند نزوله من بطن أمه كما يصنع سائر الأطفال.

وأغلب الظن أن النبى عليه الصلاة والسلام قد أراد، بذلك الحديث، أن يدفع عن أخيه الصغير عيسى وأمه من طَرْفٍ خَفِىٍّ قالةَ السوء والشُّنْع التى بهتهما بها اليهود الأرجاس. إذن فليس فى القرآن ولا فى الحديث أن سيدنا عيسى عليه السلام كان ممسوحا من الأوزار والخطايا وحده دون النبيين والمرسلين أجمعين، وإن لم يَعْنِ هذا أنه كان ذا أوزار وخطايا، إذ الأنبياء والرسل كلهم هم من ذؤابة البشر خُلُقًا وفضلاً وسلوكًا لا عيسى وحده. ومع ذلك فقد قرأنا فى حديث الشفاعة العظمى كلام الرسول الأعظم عن غفران الله له هو كل ذنوبه: ما تقدم منها وما تأخر، وهو ما استحق به وبغيره تلك المرتبة العالية، وإن لم يعن هذا أيضا أنه، صلى الله عليه وسلم، كانت له ذنوب تُذْكَر، وإلا ما قال الله فيه: "وإنك لعلى خُلُقٍ عظيمٍ" أو "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عَنِتّم، حريصٌ عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم" أو "إن الله وملائكته يصلّون على النبى. يا أيها الذين آمنوا، صَلُّوا عليه وسلِّموا تسليما". وقد أورد الرازى الذى يستشهد به مأفونُنا الحديثَ التالى: "ما منكم أحد إلا وله شيطان. قيل : ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأَسْلَم". وأظن أن هذا الحديث يضع حدا للجدال السخيف الذى فتح بابَه ذلك المأفونُ المتهالكُ العقل!

والآن إلى ما قاله الرازى فى هذا الموضوع: "ذكر المفسرون في تفسير ذلك القبول الحسن (يقصد القبول المذكور فى سورة "آل عمران" حين ابتهلت أم مريم إلى الله أن يعيذ ابنتها وذريتها من الشيطان الرجيم) وجوهًا: الوجه الأول: أنه تعالى عصمها وعصم ولدها عيسى عليه السلام من مس الشيطان. روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود يُولَد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهلّ صارخًا من مس الشيطان إلا مريم وابنها"، ثم قال أبو هريرة: اقرؤا إن شئتم: وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ الرَّجِيمِ". طعن القاضي في هذا الخبر وقال: "إنه خَبَرُ واحدٍ على خلاف الدليل، فوجَب ردُّه، وإنما قلنا إنه على خلاف الدليل لوجوهٍ أحدُها: أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الخير والشر، والصبي ليس كذلك. والثاني: أن الشيطان لو تمكن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وإفساد أحوالهم. والثالث: لمِ َخُصَّ بهذا الاستثناء مريمُ وعيسى عليهما السلام دون سائر الأنبياء عليهم السلام؟ الرابع: أن ذلك النخس لو وُجِد بَقِيَ أثره، ولو بقي أثره لدام الصراخ والبكاء، فلما لم يكن كذلك علمنا بطلانه". واعلم أن هذه الوجوه محتملة، وبأمثالها لا يجوز دفع الخبر، والله أعلم". ومن هذا يتبين لنا بأجلى بيان أن الكذاب لم يقطع عادته فى الكذب والتدليس، إذ لم يقل الرازى إن عيسى عليه السلام قد مُسِح من الأوزار والخطايا، بل ساق كلام المفسرين القائلين بذلك، لكن بإيجاز شديد، أما من نَفَوْا هذا فقد فصَّل كلامهم تفصيلا. ثم اكتفى بالقول بأن وجوه الاعتراض التى اعترض بها هؤلاء ليست قاطعة فى النفى، وإن كان من الممكن رغم ذلك أن تكون صحيحة. أى أنه لم يَنْفِ ولم يُثْبِتْ، بل اكتفى بإيراد الرأيين. وأقصى ما يمكن نسبته له من الرأى فى هذه القضية أن الأدلة التى احتج بها القاضى (عبد الجبار المعتزلى) لا تحسم الأمر. وهذا كل ما هنالك، فأين ما نسبه زيكو الحقير إلى ذلك المفسر الكبير؟

إننى لا أستطيع أن أهدأ كلما تذكرت أن هذا المَسْخ الغبىّ قد تمكن يوما من إضلال فتاة مسلمة من أتباع سيدنا النبى وجعلها تدق صليبا على يدها، ولولا لطف الله لهلكت البنت المتسرعة النزقة كافرةً فاستحقت لعنة الدنيا وجحيم الآخرة! أمعقول يا بنيتى يا خريجة الجامعة أن يستطيع هذا البهيمة الجهول أن يضحك عليك؟ فأين عقلك يا بنت الحلال؟ وأين اعتزازك بانتسابك لسيد النبيين والمرسلين؟ كيف بالله عليك ظننتِ أن مثل هذا الوغد السافل يمكن أن يكون على حق؟ أهذه سَحْنة إنسان صادق؟ أهذا صوت واحد من بنى آدم المخلصين؟ إنه ليس إلا أُبَيْلِيسا حقيرا لا عقل عنده ولا علم، أُبَيْلِيس لا يصلح فى دنيا الشيطنة إلا لــ"لَمّ السَّبَارِس" من تحت أرجل الشياطين الجالسين على المقاهى مثلما كنت أرى بعض الأطفال فى صباى بمقاهى طنطا يفعلون، وهذا إن كان فى دنيا الشياطين مقاهٍ وسَبَارِس. وأرجو أن أكون قد أعذرتُ إلى الله إذ ضيعتُ بعضًا من وقتى فى فضح جهله وغبائه، ولا داعى للحديث عن أسلوبه القبيح القمىء مثله، وكل ذلك من أجل أن قصتكِ قد آلمتنى، إذ كان السؤال ومازال: كيف يرضى مسلم من أتباع سيد النبيين والمرسلين أن يلوث عقله بالعقائد التى يعتقدها مثل ذلك الحمار السفيه الذى يصيح كالملدوغ: "الرسول النكّاح"، على حين تتلوَّى استه المنتنة شَبَقًا إلى من يطعنها حتى تهدأ، لا أهدأها الله ولا أراح صاحبها أبدا، وجعل ذلك الحمار، يعيش حياته كلها على نار، ويوم القيامة يزيد استه المنتنة (لأنه هو وأمثاله لا يستنجون ولا يعرفون للطهارة معنى)، يوم القيامة يزيد الله استه المنتنة نارا وأُوَارًا واستعارًا واحمرارًا؟! أتقول يا أيها الحمار: "الرسول النكاح"؟ وماذا فى ذلك؟ الدور والباقى عليك يا أيها "القُمّص المنكوح، صاحب الدبر المقروح"! ولعل القراء الآن يستطيعون أن يفسروا سر تقلقل ذلك النجس أثناء كلامه فى التلفاز وعدم استقراره فى جلسته على حال. السر كله لا فى شويبس كما كان يقول المرحوم حسن عابدين، بل فى دبر القُمّص المنتن، عليه وعلى دبره اللعنات! لقد دخل زيكو بدبره التاريخ، وأصبح دبره أشهر دبر فى العالم! وكما أنهم يقولون: "بعوضة النمرود، وعصا موسى، وبقرة بنى إسرائيل، وهدهد سليمان، وحوت يونس، وكلب أصحاب الكهف، وخُفّا حُنَيْن، وفيل أبرهة، وعمامة الحجاج، وبخلاء الجاحظ، وطَوْق الحمامة، وذهب المعزّ وسَيْفه، وكرمة ابن هانئ، وعبقريات العقاد، ودعاء الكروان، وبيضة الديك، وبقرة حاحا، وصندوق أبى لمعة، وشعر البنت، ولقمة القاضى، وبراغيث الست، ونبوت الخفير، وكعب أخيل، ومعطف جوجول"، فإننا بدورنا نقول: "دبر زيكو"!

وفى النهاية أحب أن أنبه القراء الأفاضل إلى أن الأناجيل تخلو تماما من ألفاظ "الثالوث والتثليث والأقانيم الثلاثة" التى يصدِّع بها الأغرارُ الحمقى أمخاخَنا، والتى يقوم دينهم المرقَّع على أساسها. وليس لهذا من معنى إلا أن تلك العقيدة الوثنية لم تظهر إلى الوجود، فيما يخص النصرانية، إلا بعد المسيح وكتابة الأناجيل. أى أنها لم تكن يوما من العقيدة التى جاء بها السيد المسيح عليه السلام وأنها إنما اختُرِعَتْ بأُخَرة. ليس هذا فحسب، بل إنه ما من نبى من قبل عيسى أو من بعده قد جاء بشىء من هذا الكفر: لا من أنبياء بنى إسرائيل ولا من سواهم. فلماذا يريد المعاتيه البلهاء أن نصدق بهذا الضلال؟ وما الذى يجرِّئهم كل هذه الجراءة ونحن الآن فى القرن الواحد والعشرين؟ إن مكان أولئك المتاعيس هو متحف التاريخ الطبيعى الخاص بالكائنات المنقرضة كالديناصورات وأشباهها مما غبر على اختفائه ملايين السنين، بحيث يكون تعليق كل من يرى بقاياهم هم وعقيدتهم أن يقول وهو فاغر فاه من الدهشة: ياه! تصوروا! لقد كان هناك قبل كذا مليون سنة ناسٌ متخلفون بلهاء كانوا يؤمنون بأن الله قد تجسّد وأنجب ولدًا (يا حَالُلِّى!)، ثم سرعان ما أماته على الصليب! يا له من إله مخلول العقل مسكين! عنده شعرة: ساعة تروح، وساعة تجىء! شفاه الله!
وبهذا نكون قد فرغنا من تفنيد سخافات زيكو فى المقارنة بين محمد وعيسى عليهما السلام، ونقيم نحن مقارنتنا بين النبيين الكريمين، ولكن على أسس منطقية وتاريخية وحضارية سليمة: فالتوحيد الذى نادى به محمد بقى كما هو، والحمد لله، رغم مرور أربعة عشر قرنا من الزمان على رحيل سيد الأنبياء عن الدنيا، ورغم كل الدواهى والمصائب التى نزلت على يافوخ المسلمين، ورغم المؤامرات التى حاكها وما زال يحيكها الصليبيون والصهاينة ضدهم وضد دينهم، بخلاف أتباع عيسى عليه السلام الذين سرعان ما عبثت أيديهم بما أتاهم به من التوحيد النقى واستبدلوا به وثنية بشرية. كذلك فتلاميذ عيسى قد تركوه عند أول تجربة حقيقية وهربوا ناجين بجلدهم حين جاء جند الرومان للقبض عليه حسبما تقول الأناجيل المزيفة، رغم أنه قد أنبأهم بأنهم سوف يفرّون ويخلّفونه وحيدا فى يد الأعداء ورغم تأكيدهم مع ذلك أنهم لن يفعلوا. بل إن بطرس قد أنكر معرفته إياه وأقسم بالله إنه لا صلة له به على الإطلاق. أما صحابة محمد فكانوا يفدّون نبيهم بالنفس والنفيس. وقد ترَّسُوا عليه مثلا فى غزوة أُحُد وتَلَقَّوْا عنه السهام بظهورهم، ولولا ذلك لكان من الممكن أن تصل إليه يد الكفار بالأذى الشنيع، إذ كانوا حريصين أشد الحرص على قتله آنذاك! كما أن رسالة محمد هى رسالة عالمية، على عكس رسالة عيسى التى كانت خاصة ببنى إسرائيل. ليس ذلك فقط، بل إن دعوة عيسى عليه السلام كما تصورها لنا السِّيَر التى كتبها بعض من يدَّعون الانتساب إليه (وهى المسماة بــ"الأناجيل") ليست أكثر من مواعظ خلقية تسودها التشنجات المثالية التى لا يمكن نجاحها فى دنيا البشر، أما رسالة محمد فرسالة شاملة، إذ هى رسالة عقيدية خلقية اجتماعية اقتصادية سياسية ثقافية. بعبارة أخرى هى رسالة حضارية تغطى جميع جوانب الحياة. ومرة ثانية لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن محمدا قد وضع رسالته موضع التنفيذ والتطبيق ونجح فى ذلك نجاحا مذهلا لم يحدث من قبل ولا من بعد، وكانت ثمرة ذلك أن أنهض الله على يديه المباركتين أمة العرب من العدم فحلّقت فى الذُّرَى العالية وأضحت سيدة العالم لقرون طوال. ومثال أو مثالان هنا يغنياننا عن ضرب غيرهما، فإن أمة لم تبلغ فى تجنب الخمر ما بلغته العرب بفضل دعوة محمد وإيمانها بدعوة محمد، أما أمم النصرانية فالخمر جزء لا يتجزأ من حياتها. كما أن الرهبانية التى ابتدعها مدَّعو التمسك بدين المسيح والتى حذّرنا منها رسول الفطرة النقية المستقيمة قد جرّتْ وراءها انحرافات جنسية خطيرة ومستطيرة، ليس أكبرها الاعتداء على الغلمان والنساء حتى فى أقدس الأماكن عندهم، فضلا عن العلاقات غير الشرعية بين الرهبان والراهبات، وكذلك المُلاَوَطَة بين الأولين، والمُسَاحَقة بين الأخيرات. وهذان مثالان اثنان لا غير على النجاح الخارق الذى أحرزته دعوة رسولنا الكريم والذى لم تستطعه دعوة أى نبى أو مصلح آخر على مدار التاريخ البشرى كله. أما دعوة عيسى عليه السلام حسبما نطالعها فيما يسمى بــ"الأناجيل" فلم تطبَّق ولو ليوم واحد. إننا طول الوقت إزاء جماعة من المرضى والممسوسين والعُرْج والبُرْص والعُمْى يفدون على السيد المسيح طلبًا للبركة والشفاء، مع بعض المواعظ المشجية، وكان الله يحب المحسنين. ومرة ثالثة لا ينتهى الأمر هنا، ذلك أن عيسى، كما نقرأ فى الأناجيل المزيفة، لم يأت إلى قومه بشريعة، ودعنا من نقضه الشريعة الموسوية رغم أنه قد أكد أنه لم يأت لينقض الناموس، بل ليكمله. ثم جاء بولس فأتى على البقية الضئيلة من تلك الشريعة! ومرة رابعة (أو خامسة، لا أدرى) لا تنتهى المسألة عند هذا الحد، إذ لو نظرنا إلى الموضوع من الزاوية الشخصية لوجدنا أن هناك فرقا بين محمد وعيسى كبيرا: فمحمد كان يعيش حياته كاملة فتزوج وأنجب ذرية، أما عيسى فلم يمارس هذا الجانب من جوانب شخصيته. وقد كان محمد خير زوج وأب عرفته الأرض، أما عيسى فلا شك أن حياته لم تعرف هذا الشىء، وإن كنا لا نقف أمامه طويلا ولا نستطيع أن ندلى برأينا فى السبب الذى من أجله لم يقيَّض له عليه السلام أن يتزوج وينجب كما يفعل الرجال فى الظروف المعتادة، إلا أننا نستنكر بشدة ما يتهمه به بعض الملاحدة الغربيين المجرمين من أنه عليه السلام كانت له علاقات منحرفة بهذه أو بذاك من أتباعه. أستغفر الله العظيم من هذا الرجس النجس الذى يراد به تلويث عِرْضِ واحدٍ من أطهر الرسل الكرام. وأخيرا وليس آخرا: أين يا ترى ذهب الإنجيل الذى بشر به السيد المسيح؟ إن الذى معنا الآن إنما هو مجموعة من السِّيَر التى كتبها بعض المنتسبين لدينه بعد وفاته بعشرات السنين ودون أن يلتزموا فيها بأى منهج، إذ كل ما اعتمدوا عليه هو الأقاويل التى سمعوها من هنا وههنا وأوردوها بعَبَلها وعُجَرها وبُجَرها دون تمحيص. وهذه السِّيَر ليست هى السِّيَر الوحيدة التى وصلتنا، بل هناك سِيَرٌ أخرى أهملتها الكنيسة وأخذت بهذه، ولا أحد يعرف السبب الذى على أساسه تمت هذه التفرقة! أما القرآن الذى نزل على قلب محمد فباقٍ كما هو لم يتغير فيه شىء. بهذه الطريقة يمكننا أن نعرف الفرق الحقيقى بين محمد وعيسى عليهما السلام. وإنى لأشبِّههما، كما قلت، بأخوين: أخٍ أكبر (هو محمد)، وأخٍ أصغر (هو عيسى)، عليهما وعلى جميع الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه!
 

http://www.saaid.net/mohamed/38.htm

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق