الأربعاء، 26 مارس 2014

بين السيد المسيح والنبي محمد في القرآن والإنجيل (4)

بين السيد المسيح والنبي محمد في القرآن والإنجيل (4)

حقائق الإسلام الدامغة وشبهات خصومه الفارغة

الرد على ضلالات زكريا بطرس


مما يظنُّ زكريا بطرس أنه يستطيع الشَّغب به على المسلمين، قوله: إن عيسى كان مُبارَكًا، أما محمد فلا، ولا أدري من أين له بأن عيسى وحدَه هو الذي بورِك دون الأنبياء جميعًا، لقد ذكَر القرآن، الذي يعتمِد عليه بطرس في محاولة التنقُّص من سيد الرسل والنبيين، أن البركة قد أُنزِلت على أشياء وأشخاص كثيرين، لا على عيسى وحدَه، كما أن البركة في غير حالة عيسى - عليه السلام - قد تُذكَر بلفظ آخر، أو يُذكَر ما يَزيد عليها في الإكرام والمحبة، فبعض أجزاء الأرض قد بارَكها الله: ﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [الأعراف: 137]، والمسجد الأقصى بارَك الله حوله: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ [الاسراء: 1]، والموضِع الذي رأى موسى فيه النار في سيناء قد بارَك الله حوله أيضًا: ﴿فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ [النمل: 8]، وإبراهيم وإسحاق قد بارَك الله عليهما: ﴿ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ ﴾ [الصافات: 113]، وهناك نوح والأمم التي كانت مع نوح، وقد بارك الله عليه وعليهم؛ حسبما جاء في كلامه - سبحانه - له: ﴿ يَا نُوحُ اهْبِطْ - أي من السفينة بعد انحسار الطوفان - بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ﴾ [هود: 48]، وهناك البيت الحرام، وقد بارَكه الله: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 96]، وكذلك القرآن الكريم، وقد جعَله الله مباركًا أيضًا: ﴿ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 50]، كما أن الليلةَ التي أُنزِلَ فيها هذا الذكر هي أيضًا ليلة مبارَكة: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ﴾ [الدخان: 3].

أما بالنسبة لنبينا - عليه وعلى كل الأنبياء الكرام أفضل الصلوات وأزكى التسليمات - فقد جاء في القرآن أنه - عزَّ وجل - يريد أن يُذهِب الرِّجْس عن أهل بيته جميعًا ويطهِّرهم تطهيرًا: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: 33]، كما أثنَى المولى عليه أعطرَ الثناء، وذلك في قوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، وقوله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، وقوله: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، وقوله: ﴿ رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [الطلاق: 11]، وقوله: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: 80]، وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، والحق أن ما قاله - سبحانه وتعالى - في تكريم حبيبه محمد في هذه الآيات وغيرها لم يُنزِل مثله في أي نبي آخر، وإن لم يكن مقصِدنا هنا المقارنة بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين إخوانه الكرام، اللهم إلا ردًّا على ذلك القمص الذي يريد أن يُثيرها نعرة جاهليَّة رعْناءَ.

ولقد بلَغ من عظمة نفْسه - عليه السلام - ونُبل أخلاقه أنْ نَهَى أتباعه عن تفضيله على أي من إخوانه الكرام؛ كما يتبيَّن من الأحاديث التالية: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: استبَّ رجلان: رجل من المسلمين ورجل من اليهود، قال المسلم: والذي اصطفى محمدًا على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفَع المسلم يده عند ذلك فلطَم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبَره بما كان من أمره وأمر المسلم، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلم فسأله عن ذلك فأخبره، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تخيِّروني على موسى؛ فإن الناس يُصعَقون يوم القيامة، فأُصعَق معهم، فأكون أول من يُفيق، فإذا موسى باطش جانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صُعِق فأفاق قبل، أو كان ممن استثنى الله))، وعن أبي هريرة أيضًا قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، قال: ولو لبثتُ في السجن ما لبث يوسف ثم جاءني الرسول أجبتُ، ثم قرأ: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾ [يوسف: 50]))، وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما ينبغي لعبد أن يقول: إنِّي خير من يونس بن متى)).

ولم نكن لنحب أن ندخُل في هذا المضيق، إلا أن للضرورة أحكامًا؛ إذ لم يكن متصوَّرًا أن يهُبَّ بعض الناس في هذا العصر، فيتطاولوا على سيد الأنبياء جهارًا نهارًا، فكان لا مناص من إلجامهم بلجام الخَرَس؛ حتى يعرِفوا حدودهم ويلزَموها؛ فلا يُقِلُّوا أدبهم عليه، وبالمناسبة فتكملة الآية الكريمة التي جاء فيها على لسان المسيح أن الله قد جعله مُبارَكًا هي: ﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ [مريم: 31]؛ أي: إنه عبد له - سبحانه وتعالى - لا ربَّ مثله ولا ابنٌ له كما يدَّعي القمص البَهلوان؛ ولذلك أمره الله بالصلاة والزكاة ما دام حيًّا؛ إذ الرب لا يُؤْمَر ولا يُنْهَى، بل الذي يُؤْمَر ويُنْهَى هو العبد، لكن القمص يتجاهَل هذا ولا يَستشهِد به؛ حتى لا تنكشِف فضيحته!

كذلك جاء في كلام القمص الأرعن أن عيسى - عليه السلام - سيأتي حكَمًا مُقْسِطًا بدليل الحديث التالي الذي أورَده البخاري: ((لن تقوم الساعة حتى ينزل فيكم))؛ (أي: بينكم) ابن مريم حَكمًا مُقسِطًا؛ (أي: عادلاً)، والذي يفسِّر الأرعنُ لفظ "المُقسِط" فيه بأنه اسم من أسماء الله الحسنى، بما يُفيد أن عيسى هو الله، أو على الأقل ابن الله؛ إذ ذكَر أن "المعجم الوسيط" قد شرَح "المقسِط" بأنه اسم من أسماء الله الحسنى، ثم ختَم كلامه قائلاً: "وماذا عن محمد؟"، وهذا الكلام هو تخبيص في تخبيص! أَتدري لماذا؟

لأن هذا الحديث وأمثاله من الآثار التي تتحدَّث عن عودة المسيح - عليه السلام - إلى الدنيا إنما تؤكِّد ما يَسُوء وجهَ هذا الأرعن، ذلك أن تلك الأحاديث إنما تتحدَّث عن رجوع المسيح ليكسر الصُّلبان، ويحطِّم أوعية الخمور، ويقتُل الخنزير، ويدعو الناس بدعوة التوحيد التي أتى بها نبينا - عليه السلام - وضلَّ عنها من يزعُمون أنهم أتباع عيسى - عليه السلام - ويَنسَخ التثليث، ويَتبرَّأ من مُعتنقِيه على رؤوس الأشهاد، لكن الماكر الخبيث يقتطِع من هذه الأحاديث جملة ينتزِعها من سياقها، ظانًّا أنه يمكن أن يُجْلِب بها على العقول، ويَمضي في سبيله دون أن يُعقِّب عليه أحد.

نقرأ مثلاً في "صحيح البخاري": حدَّثنا إسحاق: أخبرنا يعقوب بن إبراهيم: حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب أن سعيد بن المسيَّب سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده، ليُوشِكَنَّ أن يَنزِل فيكم ابن مريم حَكمًا عَدْلاً فيَكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويَفيض المال حتى لا يقبله أحد؛ حتى تكون السجدة الواحدة خيرًا من الدنيا وما فيها))، ويقول صاحب "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" في تعليقه على هذا الحديث: "روى مسلم من حديث ابن عمر في مدة إقامة عيسى بالأرض بعد نزوله أنها سبع سنين".

وروى نعيم بن حمَّاد في "كتاب الفتن" من حديث ابن عباس أن عيسى إذ ذاك يتزوَّج في الأرض، ويقيم بها تسع عشرة سنة، وبإسناد فيهم مُبهَم عن أبي هريرة: يُقيم بها أربعين سنة، وروى أحمد وأبو داود بإسناد صحيح من طريق عبدالرحمن بن آدم عن أبي هريرة مِثله مرفوعًا، وفي هذا الحديث: "ينزِل عيسى عليه ثوبان ممصَّران، فيَدقُّ الصليب، ويقتل الخنزير، ويضَع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويُهلِك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، وتقع الأَمَنَة في الأرض؛ حتى ترتعَ الأسود مع الإبل، وتلعب الصبيان بالحيَّات"، وقال في آخره: ثم يُتَوَفَّى ويصلِّي عليه المسلمون"، وروى أحمد ومسلم من طريق حنظلة بن علي الأسلمي عن أبي هريرة: "لَيهلنَّ ابنُ مريم بفجِّ الروحاء بالحج والعمرة"؛ الحديث، وفي رواية لأحمد من هذا الوجه: "ينزل عيسى، فيُقتَل الخنزير، ويُمحى الصليب، وتُجمَع له الصلاة، ويُعطى المال حتى لا يُقبَل، ويضع الخرَاج، وينزل الروحاء فيحجُّ منها أو يعتمِر أو يجمعهما"، ولكي يعرِف القرَّاء الكرام مدى الخُبث الخائب الذي يلجأ إليه ذلك العبيط؛ أسُوق إليهم كاملاً نصَّ الحديث الذي اقَتطَع منه المحتال الدجال ما اقتَطَع، جاء في "صحيح البخاري": "حدثنا قتيبة بن سعيد: حدثنا الليث عن ابن شهاب عن ابن المسيب أنه سمِع أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده، لَيُوشِكَنَّ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَمًا مُقْسِطًا، فيَكسِر الصليب، ويقتُل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يَقبَله أحد))، ويُشبِهه ما جاء في "مسند أحمد بن حنبل": "حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة يبلُغ به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: ((يوشِك أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسِطًا؛ يكسِر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبَله أحد))، وكذلك ما جاء في "سنن الترمذي": "حدثنا قتيبة: حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيَّب، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((والذي نفْسي بيده ليوشِكنَّ أن يَنزِل فيكم ابن مريم حَكمًا مقسِطًا؛ فيكسِر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد))، ثم إن الأحاديث التي ورَدت في هذا الموضوع تسمِّي كلُّها السيدَ المسيح "ابن مريم"؛ أي: إنه مولود لمريم، على حين أن القرآن الكريم يَنفي نفيًا قاطعًا أن يكون الله قد ولَد أو وُلِدَ، وهو ما يعني أن الله لا يكون أبًا أو ابنًا، لكن العبيط يتجاهَل هذا كلَّه، ويريد أن نتخلَّى عن عقولنا وديننا وتوحيدنا!

أما التحايل المُتهافِت الذي يتخابث به الأرعن من خلال الاستشهاد بـ: "المعجم الوسيط" على أن "المُقسِط" هو اسم من أسماء الله الحسنى، فنفَضَحه بالإشارة إلى أن النبي الكريم قد وُصِف هو أيضًا (وفي القرآن لا في الحديث) بأنه: رؤوف رحيم، وكريم، وحق، وشهيد، وهي من أسماء الله الحسنى أيضًا، كما وُصِف خُلُقه بأنه "عظيم"، وهو اسم آخر من تلك الأسماء الكريمة، كما أُمِر الرسول بأن يكون من المُقسِطين، و"المقسط" من أسماء الله الحسنى، حسبما نقَل صويحبنا عن "المعجم الوسيط"؛ قال - تعالى -: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾، ﴿ إِنَّهُ - أي القرآن - لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾ [الحاقة: 40]، ﴿ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ﴾ [آل عمران: 86]، ﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]، ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4] ﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [المائدة: 42]، وبِناءً على هذا المنطق "العِيالي"، فالرسول محمد هو الإله أو ابن الإله!

إنه قلَّما كان اسم من أسماء الله إلا أَمكَن استخدامه للبشر، إلا أنه بالنسبة إلى الله يكون مُطلَقًا، أما في حالة البشر، فهو مُقيَّد محدود، كذلك فقد قال الحديث: إن "ابن مريم" (لاحظ: "ابن مريم" لا "ابن الله" ولا "الله" ذاته") سوف يَنزِل حَكمًا مقسِطًا، بتنكير كلمة "حَكَم"، وكأنه فرْد في مجموعة من جنسه، مع أنه - سبحانه وتعالى - هو الواحد الأحد، الذي ليس كمِثله أحد، كما أن الله لا ينزل من رحِم امرأة وفَرْجها، ويُخالِط الناس، ويمشي وسَطهم، ويأكل ويشرب، ويتبول ويتبرَّز، ويتقايأ وتُصيبه الأمراض والمخاوف مثلهم، ودعنا من صَلْبه وقتْله وطعْنه بالرمح في جنبه وشتمه وإهانته وصُراخه من الألم والعذاب؛ طالبًا النجدة! (النجدة ممن! إذا كان الله نفسه هو الذي يُضْرَب ويُقْتل ويُهان؟)، فضلاً عن أن يُتَوفَّى ويُصَلَّى عليه (يُصلَّى"عليه" لا "له")، تعالى الله عن أن يتوفَّى أو يصلِّي عليه أحد! وأخيرًا فـ: "المعجم الوسيط" (وغير الوسيط أيضًا بطبيعة الحال)، لا يقصِد أن معنى "المقسط" ينحصِر في أنه اسم "من أسماء الله الحسنى" وحَسْب، بل يذكُر ذلك على أنه معنى من المعاني التي تُستَخدم فيها الكلمة، وإلا فقد ورد هذا اللفظ في القرآن عدة مرات منسوبًا للبشر كما هو معروفٌ؛ إذ قال - عَزَّ شأنه - مثلاً: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [المائدة: 42، والحجرات: 9، والممتحنة: 8].

ولا يكتفي المدلِّس بهذا، بل يُضيف كذبة أخرى قائلاً: إن عيسى - عليه السلام - طبقًا لما يقول القرآن، سوف يكون شفيعًا في الدنيا والآخرة، وقد استشهَد على هذه الكذْبة بقوله - تعالى - عن ابن مريم - عليه السلام - مخاطبًا أمه على لسان الملائكة:
1- ﴿ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [آل عمران: 45]، وهذا نَصُّ كلامه "شفيعًا في الدنيا والآخرة"، ﴿ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾.

2- "ابن كثير، ج (1)، ص "283"، "وفي الدار الآخرة يشفَع عند الله"، ثم يختِم كالعادة بالسؤال التالي: "وماذا عن محمد؟"، والمُلاحَظ أولاً أن القرآن الذي يَستشِهد به لم يذكُر الشفاعة لعيسى، بل لم يُشِر إليها مجرَّد إشارة، وكل ما قاله: إنه سيكون: ﴿ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾، إنما قال ذلك ابن كثير، وهو مجرَّد اجتهاد من عنده لا يُلْزِمنا بشيء ما دام لم يَسُق لنا الحيثيات التي أقام عليها هذه الدعوى، إن في القرآن كلامًا عن ابن مريم يوم القيامة يُصوِّره - عليه السلام - وهو واقفٌ أمام ربه يسأله عما أتاه أتباعه من بعده من تألِيههم له، سؤال الرب للعبد الخائف الراجِف الذي يعرف حدوده جيدًا، فهو يُسارِع بالتنصُّل من هذا الكفر الشنيع وممن قالوه، وحتى لو كانت له - عليه السلام - في ذلك الموقف شفاعة،فما الذي في هذه المَكرُمة مما يُشنَّع به على محمد - عليه الصلاة والسلام؟

إن محمدًا - عليه الصلاة والسلام - لهو صاحب الشفاعة العظمى حسبما نَصَّ على ذلك كثير من الأحاديث النبوية؛ روى البخاري عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يُحْبَس المؤمنون يوم القيامة حتى يهمُّوا بذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا فيُريحنا من مكاننا، فيأتون آدم فيقولون: أنت آدم أبو الناس، خلَقك الله بيده، وأسكَنكَ جنَّته، وأسجَد لك ملائكته، وعلَّمك أسماء كل شيء، لتَشفَعْ لنا عند ربك حتى يُريحنا من مكاننا هذا، قال: فيقول: لستُ هُناكم، قال: ويَذكُر خطيئته التي أصاب؛ أكْله من الشجرة وقد نُهِيَ عنها، ولكن ائتوا نوحًا أول نبي بعَثه الله إلى أهل الأرض، فيأتون نوحًا، فيقول: لستُ هُناكم، ويذكُر خطيئته التي أصاب: سؤاله ربه بغير عِلم، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن، قال: فيَأتون إبراهيم، فيقول: إني لست هُناكم، ويذكُر ثلاث كلمات كَذَبَهُنَّ، ولكن ائتوا موسى عبدًا آتاه الله التوراة، وكلَّمه، وقرَّبه نَجِيًّا، قال: فيأتون موسى، فيقول: إني لستُ هُنَاكم، ويذكُر خطيئته التي أصاب؛ قَتْله النفس، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وروح الله وكلمته، قال: فيأتون عيسى، فيقول: لستُ هُنَاكم، ولكن ائتوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - عبدًا غفَر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فيأتوني، فأستأذِن على ربي في داره، فيؤذَن لي عليه، فإذا رأيته، وقعتُ ساجدًا، فيَدعُني ما شاء الله أن يدَعني، فيقول: ارفع محمد، وقل يُسمَع، واشفع تُشَفَّعْ، وسَلْ تُعْطَه، قال: فأرفعُ رأسي، فأُثني على ربي بثناء وتحميد يُعلِّمنيه، ثم أشفع، فيحد لي حدًّا، فأخرج، فأُدخِلهم الجنة))، قال قتادة: وسمعته أيضًا يقول: ((فأخرُج فأُخرِجهم من النار، وأُدخِلهم الجنة، ثم أعود الثانية، فأستأذِن على ربي في داره، فيُؤذَن لي عليه، فإذا رأيتُه وقعت ساجدًا، فيَدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفع محمد، وقل يُسمَع، واشفع تُشَفَّع، وسَل تُعطَه، قال: فأرفع رأسي، فأُثني على ربي بثناء وتحميد يعلِّمنيه، قال: ثم أشفع، فيحد لي حدًّا، فأخرج فأدخلهم الجنة، قال قتادة: وسمعته يقول: ((فأخرُج فأخرِجهم من النار، وأدخِلهم الجنة، ثم أعود الثالثة فأستأذِن على ربي في داره، فيُؤذَن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدًا، فيدَعني ما شاء الله أن يدَعني، ثم يقول: ارفع محمد، وقل يُسمَع، واشفع تُشَفَّع، وسَل تُعطَه، قال: فأرفع رأسي، فأُثني على ربي بثناء وتحميد يعلِّمنيه، قال: ثم أشفع، فيحد لي حدًّا، فأخرج فأُدْخِلهم الجنة))، قال قتادة: ((وقد سمِعته يقول: فأَخْرُج فأُخْرِجهم من النار وأُدْخِلهم الجنة، حتى ما يبقى في النار إلا من حبَسه القرآن، أي وجَب عليه الخلود))، قال: "ثم تلا هذه الآية: ﴿ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79]"، قال: وهذا المقام المحمود الذي وُعِدَه نبيُّكم - صلى الله عليه وسلم - وهو ما يدلُّ على أنه لا شفاعةَ لابن مريم في ذلك الموقف، بل ستكون الشفاعة لسيدنا محمد - عليه السلام - وحدَه من دون الأنبياء والرُّسل، وهذه إحدى المكرمات التي اخْتُصَّ بها سيدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان هذا لا يَنال من عيسى ولا غيره من المرسلين في شيء؛ فتقديم أحد الأنبياء على سائر إخوانه لا يُسيء إليهم في قليل ولا كثير، فكلهم مكرَّمون معظَّمون بفضل الله، لكنه يدَلُّ على أن صاحب التقديم قد اخْتُصَّ بمزيد من التكريم والتعظيم، وهذا هو وضْع المسألة دون طنطنات ولا سخافات فارغة من تلك التي يبرُع فيها أحلاس الجهل والحقد!

أما ما نقَله المدلِّس عن ابن كثير، فقد عبث به كعادته ليَبلُغ غاية في نفسه؛ إذ أخَذ منه ما يريد وحَذَف ما لا يريد، لكن الله لم يتركه يَهنأ بتلك الغاية؛ إذ ذهب العبد لله إلى ابن كثير، فألفيتُه يقول في تفسير قوله - تعالى - عن المسيح ابن مريم - عليه السلام -: ﴿ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [آل عمران: 45]؛ أي: له وجَاهة ومكانة عند الله في الدنيا بما يُوحيه الله إليه من الشريعة، ويُنزِله عليه من الكتاب، وغير ذلك مما منَحَه الله به، وفي الدار الآخرة يشفع عند الله فيمن يأذَن له فيه، فيَقبل منه، أسوةً بإخوانه من أولي العزم - صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

ومعنى هذا لو أخذنا بتفسير ابن كثير، أن عيسى لن تكون له هنا أية ميزة استثنائية؛ سواء بالنسبة لرسولنا محمد خصوصًا، أو بالنسبة للأنبياء كلهم عمومًا؛ فالشفاعة ستكون للجميع، وليس لعيسى وحده كما أراد هذا الأُبيْليس أن يوهِمنا كذبًا وزُورًا، بَيْدَ أن الشفاعة العظمى إنما هي من نصيب سيد الأنبياء والمرسلين؛ كما ورد في الحديث الآنف الذِّكر.

ومن ادِّعاءات زكريا بطرس الطفولية: قوله: إن عيسى قد أُصعِد إلى السماء حيًّا، فماذا عن محمد؟ والجواب هو أن محمدًا قد عُرِج به إلى السموات العلا حتى بلَغ سدرة المُنتهى؛ كما ذكَر القرآن الذي تُحَاجِجُنا به.

هذه واحدة، والثانية هي أن النص القرآني ليس قاطع الدِّلالة في موضوع صعود عيسى - عليه السلام - بالجسد ولا صعوده حيًّا؛ إذ تقول الآية الكريمة: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ [آل عمران: 55]، وليس فيها على سبيل القطع الذي لا تمكن المماراة فيه أنه - سبحانه - قد أصعَده إلى السماء حيًّا بجسده، إنَّ من المسلمين من يَفهم تلك الآية كما فَهِمها القمص، لكن هناك أيضًا من المسلمين من يقولون بالوفاة العادية ورِفْعَة المكانة لا الجسد، وعلى أية حال هل هناك فَرْق كبير بين قوله - سبحانه - عن السيد المسيح وبين قوله عن إدريس - عليهما السلام -: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ﴾ [مريم: 56، 57]؟ ثم إن الكتاب المقدَّس عند اليهود والنصارى ذكَر أيضًا أن إيليَّا قد رفَعه الله إليه أيضًا بالمعنى المادي، أي أصعَدَ جسده إلى السماء؛ "وفيما هما يَسيران ويتكلَّمان إذا مركَبة من نار وخيل من نار فصَلَت بينهما، فصعَد إيليا في العاصفة إلى السماء، وكان أليشع يرى وهو يصرخ: "يا أبي، يا أبي، مركَبة إسرائيل وفرسانها"، ولم يرَه بعد" (ملوك: 2/ 2/ 11 - 12).

إنني - كما قلتُ من قبل - لا أَبغي أبدًا التقليل من شأن سيدنا عيسى - عليه السلام - على الأقل لأنَّنا نحن المسلمين نَعُدُّ أنفسنا أتباعه الحقيقيين، كل ما هنالك أننا نحاول أن نُقدِّم صورة منطقية ومستقيمة وصحيحة في المُقارنة بين النبيَّين العظيمَين: محمد وعيسى - عليهما السلام - صورة تُظْهِرهما في أبعادهما الصحيحة على أساس أن عيسى هو من محمد بمثابة الأخ الأصغر: سنًّا وإنجازًا وأَثرًا، وهذا كل ما هنالك، وفي النهاية نقول: فلنفتَرِض أن عيسى قد أُصْعِد فعلاً بجسده إلى السماء، وأنه هو وحدَه الذي حدَث له ذلك، فالسؤال حينئذ هو: وماذا بعد؟ وما الفائدة التي عادت على الدعوة من جرَّاء هذا؟ لقد انحرَف فريق كبير من أتباعه بسبب هذا الصعود وغيره، وأشرَكوه مع الله، وهو البشير الضعيف العاجِز الفاني!

ويتبقَّى كلام المدلِّس عن مسْح عيسى - عليه السلام - من الأوزار وسؤاله المُعتاد في آخر الكلام: "وماذا عن محمد؟"، وهذا ما قاله نَصًّا: "ممسوح من الأوزار: (انظر حتميَّة الفداء ص24): 1- [سورة مريم]، 2- [سورة آل عمران]، 3- الإمام الرازي ج (3) ص 676، 4- أبي هريرة، 5- صحيح البخاري، وماذا عن محمد؟"، وهو بإشارته إلى سُورَتَي "آل عمران"، إنما يقصِد قوله - تعالى - عن امرأة عمران - أم مريم عليها السلام - وإعِاذَتها إياها هي وذريَّتها عند وِلادتها من الشيطان الرجيم: ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 36]، أما سورة "مريم"، فلم أجد فيها شيئًا يتعلَّق بالموضوع الذي نحن بإزائه، وبالنسبة لما جاء في "آل عمران"، فليس فيه سوى أن زوجة عمران قد استَعاذت لابنتها وذريَّتها بالله من الشيطان الرجيم، وهو ما يفعَله كل مؤمن لنفْسه ولأولاده.

وفي تفسير الرازي: "روى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من استَعاذ في اليوم عشر مرات وكَّل الله - تعالى - به مَلَكًا يَذُود عنه الشيطان))، وفي "سنن أبي داود" عن ابن عمر أنَّ رسول الله قال: ((من استعاذ بالله فأَعيذوه، ومن سأل بالله فأَعطُوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنَع إليكم معروفًا فكافِئوه، فإن لم تَجِدوا ما تُكافئونه، فادْعوا له حتى تَرَوا أنكم قد كافأتموه)).

فليس في الآية في حدِّ ذاتها ما يدل على أن عيسى - عليه السلام - كان ممسوحًا وحدَه من الأوزار دون الأنبياء والمرسلين، وإن كنا نؤمن أنهم جميعًا - عليهم الصلاة والسلام - كانوا من خيرة صفوة البشر، وكانت أخلاقهم من السموِّ والرِّفعة، بحيث تتلاءم مع المهمة الجليلة التي انتدَبهم الله لها من بين سائر البشر، ومع هذا فهناك مثلاً في مسند ابن حنبل حديث عن النبي - عليه السلام - رواه أبو هريرة يقول فيه: ((ما من مولود يُولَد إلا نَخَسه الشيطان، فيستهلُّ صارخًا من نخْسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه))، ثم قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 36]، وفي "سنن الدارمي" عن ابن عباس أنه قال: ((ليس من مولودٍ إلا يَستهلُّ، واستهلاله بعصر الشيطان بطنه، فيصيح، إلا عيسى ابن مريم)).

وليس فيه كما هو واضِح، أيَّة إشارة إلى مسْحه - عليه السلام - من الأوزار والخطايا، بل الكلام فيه عن نخْسة الشيطان التي يبكي الطفل بسببها عند الولادة أول ما يَستقبِل الحياة، والتي يقول الأطباء: إنَّ سببَها هو استنشاقه لأول مرَّة الهواء استنشاقًا مباشرًا، فهو ردُّ فعل بيولوجي لا مَعْدَى عنه لأي طفل، لكنْ لأن ولادة عيسى كانت ولادة غير طبيعيَّة، فلربما كان ذلك هو السبب في أنه لم يَصرُخ عند نزوله من بطن أمه كما يصنع سائر الأطفال.

وأغلبُ الظن أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قد أراد بذلك الحديث، أن يدفَع عن أخيه الصغير عيسى وأمه من طَرْفٍ خَفِيٍّ قالةَ السوء والشُّنْع التي بهتَهما بها اليهود الأرجاس، إذًا فليس في القرآن ولا في الحديث أن سيدنا عيسى - عليه السلام - كان ممسوحًا من الأوزار والخطايا وحدَه دون النبيِّين والمرسلين أجمعين، وإن لم يَعْنِ هذا أنه كان ذا أوزار وخطايا؛ إذ الأنبياء والرُّسل كلهم هم من ذؤابة البشر خُلُقًا وفضلاً وسلوكًا لا عيسى وحدَه، ومع ذلك فقد قرأنا في حديث الشفاعة العظمى كلام الرسول الأعظم عن غُفران الله له هو كل ذنوبه: ما تقدَّم منها وما تأخَّر، وهو ما استحقَّ به وبغيره تلك المرتَبة العالية، وإن لم يعنِ هذا أيضًا أنه - صلى الله عليه وسلم - كانت له ذنوب تُذْكَر، وإلا ما قال الله فيه: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، أو ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيم ﴾ [التوبة: 128]، أو ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، وقد أورد الرازي الذي يَستشهِد به الأحمق الحديثَ التالي: ((ما منكم أحد إلا وله شيطان))، قيل: "وأنت يا رسول الله؟" قال: ((ولي، إلا أن الله - تعالى - أَعانني عليه، فأَسلَم)).

وأظنُّ أن هذا الحديث يضع حدًّا للجدال السخيف الذي فتَح بابه ذلك المُتهالِك العقل!

والآن إلى ما قاله الرازي في هذا الموضوع: "ذكَر المفسِّرون في تفسير ذلك القَبُول الحسن - يقصِد القَبُول المذكور في سورة "آل عمران" حين ابتهَلت أم مريم إلى الله أنْ يُعيذ ابنتها وذريَّتها من الشيطان الرجيم - وجوهًا:
الوجه الأول: أنه - تعالى - عصَمَها وعصَم ولدها عيسى - عليه السلام - من مسِّ الشيطان، روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من مولود يُولَد إلا والشيطان يمَسُّه حين يُولَد، فيستهلُّ صارخًا من مسِّ الشيطان إلا مريم وابنها))، ثم قال أبو هريرة: "فاقرؤوا إن شئتم: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم ﴾ [آل عمران: 36]، طعَن القاضي في هذا الخبر وقال: "إنَّه خَبَرُ واحدٍ على خلاف الدليل، فوجَب ردُّه، وإنما قلنا: إنه على خلاف الدليل لوجوهٍ: أحدُها: أن الشيطان إنَّما يدعو إلى الشر من يعرف الخير والشر، والصبي ليس كذلك، والثاني: أن الشيطان لو تمكَّن من هذا النَّخس، لفعَل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وإفساد أحوالهم، والثالث: لِمَ خُصَّ بهذا الاستثناء مريمُ وعيسى - عليهما السلام - دون سائر الأنبياء عليهم السلام؟ الرابع: إن ذلك النخس لو وُجِد بَقي أثرُه، ولو بقي أثره لدام الصراخ والبكاء، فلما لم يكن كذلك، علِمنا بُطلانه، واعلَم أن هذه الوجوه مُحتملة، وبأمثالها لا يجوز دفْع الخبر، والله أعلم"، ومن هذا يتبيَّن لنا بأجلى بيان أن الكذَّاب لم يقطَع عادته في التدليس؛ إذ لم يقل الرازي: إن عيسى - عليه السلام - قد مُسِح من الأوزار والخطايا، بل ساق كلام المفسِّرين القائلين بذلك، لكن بإيجاز شديد، أما من نَفَوا هذا فقد فصَّل كلامهم تفصيلاً، ثم اكتفَى بالقول بأن وجُوه الاعتراض التي اعترَض بها هؤلاء ليست قاطِعة في النفي، وإن كان من الممكن - رُغم ذلك - أن تكون صحيحة؛ أي: إنه لم يَنْفِ ولم يُثبِت، بل اكتفى بإيراد الرأيَين، وأقصى ما يمكن نِسبته له من الرأي في هذه القضية أن الأدلة التي احتجَّ بها القاضي (عبدالجبار المُعتزِلي)، لا تَحسِم الأمر، وهذا كل ما هنالك، فأين ما نَسبَه (زيكو) إلى ذلك المفسِّر الكبير؟

وبهذا نكون قد فرَغنا من تفنيد سخافات (زيكو) في المقارنة بين محمد وعيسى - عليهما السلام - ونُقيم نحن مقارنتنا بين النبيَّين الكريمَين، ولكن على أسس منطقيَّة وتاريخية وحضارية سليمة؛ فالتوحيد الذي نادى به محمد بقِي كما هو والحمد لله، رُغم مرور أربعة عشر قرنًا من الزمان على رحيل سيد الأنبياء عن الدنيا، ورُغم كل الدواهي والمصائب التي نزَلت على يافوخ المسلمين، ورُغم المؤامرات التي حاكَها - وما زال يَحيكها - الصليبيون والصهاينة ضدَّهم وضد دينهم، بخلاف جمهور أتْباع عيسى - عليه السلام - الذين سَرعان ما عبثت أيديهم بما أتاهم به من التوحيد النقي، كذلك فتلاميذ عيسى قد ترَكوه عند أول تجرِبة حقيقية، وهرَبوا ناجين بجلدهم حين جاء جند الرومان للقبض عليه - حسبما تقول الأناجيل ذاتها - رغم أنه قد أنبأهم بأنهم سوف يَفِرُّون ويُخلِّفونه وحيدًا في يد الأعداء، ورُغم تأكيدهم - مع ذلك - أنهم لن يَفعلوا، بل إن بطرس قد أنكَر معرفته إياه، وأقَسَم بالله إنه لا صِلة له به على الإطلاق، أما صحابة محمد، فكانوا يفدون نبيهم بالنفس والنفيس، وقد ترَّسُوا عليه مثلاً في غزوة أُحد وتَلقَّوا عنه السهام بظهورهم، ولولا ذلك، لكان من الممكن أن تصِل إليه يد الكفار بالأذى الشنيع؛ إذ كانوا حريصين أشدَّ الحرص على قتْله آنذاك! كما أن رسالة محمد هي رسالة عالمية، على عكس رسالة عيسى التي كانت خاصة ببني إسرائيل، ليس ذلك فقط، بل إنَّ دعوة عيسى - عليه السلام - كما تُصوِّرها لنا الأناجيل ليست أكثر من مواعِظ خُلُقيَّة تَسودها المبالغات المثالية التي لا يمكن نجاحها في دنيا البشر، أما رسالة محمد، فرسالة شاملة؛ إذ هي رسالة عقيدية، خُلقية، اجتماعية، اقتصادية، سياسية، ثقافية.

بعبارة أخرى: هي رسالة حضاريَّة تُغطِّي جميع جوانب الحياة، ومرة ثانية لا يتوقَّف الأمر عند هذا الحد، بل إنَّ محمدًا قد وضَع رسالته موضِع التنفيذ والتطبيق، ونجَح في ذلك نجاحًا مُذهِلاً لم يحدث من قبلُ ولا من بعد، وكانت ثمرة ذلك أن أَنهَض الله على يديه المبارَكتَين أمة العرب من العدم، فحلَّقت في الذُّرَى العالية، وأضحَت سيدة العالم لقرون طُوال، ومثال أو مثالان هنا يُغنيانِنا عن ضرْب غيرهما، فإن أمة لم تبلُغ في تَجنُّب الخمر ما بلَغتْه الأمة الإسلامية بفضْل دعوة محمد وإيمانها بدعوة محمد، أما أُمم النصرانيَّة، فالخمر جزء لا يتجزَّأ من حياتها، كما أن الرهبانية التي ابتدَعها مُدَّعو التمسك بدين المسيح، والتي حذَّرنا منها رسول الفطرة النقية المستقيمة، قد جرَّت وراءها انحرافات جنسيَّة خطيرة ومُستطيرة، ليس أكبرَها الاعتداء على الغِلمان والنساء حتى في أقدس الأماكن عندهم، فضلاً عن العلاقات غير الشرعيَّة بين الرهبان والراهبات، وكذلك المُلاوَطة بين الأوَّلين، والمُساحَقة بين الأَخيرات على حسَب ما نقرأ في الصحف هذه الأيام، وهذان مثالان اثنان لا غير على النجاح الخارِق الذي أحرزتْه دعوة رسولنا الكريم، والذي لم تستطِعه دعوة أي نبي أو مُصلِح آخر على مدار التاريخ البشري كلِّه، أما دعوة عيسى - عليه السلام - حسبما نُطالِعها فيما يسمَّى بـ: "الأناجيل"، فلم تُطبَّق ولو ليوم واحد.

إنَّنا طول الوقت إزاء جماعة من المرضى والممسوسين والعُرج والبُرص والعُمْي، يَفِدون على السيد المسيح طلبًا للبركة والشفاء، مع بعض المواعِظ المُشجية، وكان الله يحب المحسنين.

ومرة ثالثة لا ينتهي الأمر هنا، ذلك أن عيسى - كما نقرأ في الأناجيل - لم يأتِ إلى قومه بشريعة، ودعنا من نقْضه الشريعة الموسويَّة رُغم أنه قد أكَّد أنه لم يأتِ ليَنقُض الناموس، بل ليُكمِّله، ثم جاء بولس فأتى على البقية الضئيلة من تلك الشريعة!

ومرة رابعة لا تنتهي المسألة عند هذا الحد؛ إذ لو نظرْنا إلى الموضوع من الزاوية الشخصية، لوجدنا أن هناك فَرقًا بين محمد وعيسى كبيرًا؛ فمحمد كان يعيش حياته كامِلة، فتزوَّج وأنجَب ذرية، أما عيسى، فلم يُمارِس هذا الجانب من جوانب شخصيته، وقد كان محمد خير زوج وأبٍ عرَفته الأرض، أما عيسى، فلا شكَّ أن حياته لم تعرف هذا الشيء، وإن كنا لا نقف أمامه طويلاً، ولا نستطيع أن نُدلي برأينا في السبب الذي من أجْله لم يُقيَّض له - عليه السلام - أن يتزوَّج ويُنجِب كما يفعل الرجال في الظروف المُعتادة، إلا أننا نستنكِر بشدة ما يتَّهِمه به بعض الملاحِدة الغربيِّين المجرمين من أنه - عليه السلام - كانت له علاقات مُنحرِفة بهذه أو بذاك من أتباعه، أستغفِر الله العظيم من هذا الرجس النَّجِس الذي يُراد به تلويث عِرض واحدٍ من أطهر الرسل الكرام، وأخيرًا وليس آخرًا: أين يا تُرى ذهب الإنجيل الذي بشَّر به السيد المسيح؟ إن الذي معنا الآن إنما هو مجموعة من السِّير كتَبها بعض المُنتسِبين لدينه بعد وفاته بعشرات السنين، ودون أن يَلتزِموا فيها بأي منهج؛ إذ كلُّ ما اعتمدوا عليه هو الأقاويل التي سمعوها من هنا وها هنا، وأوردُوها بعَبَلها وعُجَرها وبُجَرها دون تمحيصٍ، وهذه السِّير ليست هي السِّير الوحيدة التي وصلتنا، بل هناك سِيَرٌ أخرى أهملتْها الكنيسة وأخذت بهذه، ولا أحد يعرف السبب الذي على أساسه تمَّت هذه التفرِقة! أما القرآن الذي نزَل على قلب محمد، فباقٍ كما هو لم يتغيَّر فيه شيء، بهذه الطريقة يمكِننا أن نعرف الفرق الحقيقي بين محمد وعيسى - عليهما السلام - وإني لأُشبِّههما - كما قلت - بأخوين؛ أخ أكبر (هو محمد)، وأخ أصغر (هو عيسى) - عليهما وعلى جميع الأنبياء والرُّسل صلوات الله وسلامه!







رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/58119/#ixzz2x8SiYWy0


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/58119/#ixzz2x8SVY8qk

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق